كتب : طارق هيثم الكلدي.
من أسوأ ما يجده القارئ في الثقافة الغربية ، النزعة المركزية والنفسية النرجسية ، التي ادعت لنفسها الذكاء والإبداع والعبقرية ووصفت بقية شعوب العالم بالهمجية والبربرية وأوصاف أخرى عنصرية مقيتة ، ومن يقرأ في كتب الفكر والفلسفة يجد مثل هذا طافحا بكتابات الكثير من العلماء والفلاسفة الغربيين منذ الأغارقة إلى يومنا هذا!
من تلك النرجسيات المقززة ما ذكره أكثر مؤرخي العلم الغربيين: أن العلم قد بدأ في اليونان ، وأطلقوا على مساهمات الإغريق العلمية (بالمعجزة)! . فإذا كانت المعجزة هي اختراع الشيء الغير المقدور عليه ، فهم بهذا الوصف لتلك المساهمات اليونانية - وإن كنا لا ننكر بأنها حلقة من حلقات الحضارة الانسانية - قد نفوا سائر مساهمات البشرية وحضاراتها العظيمة عبر تاريخها الطويل من الصين إلى غرب القارة الأمريكية بدون استثناء!
طبعا هناك قلة من المؤرخين الغربيين المنصفين من بدد تلك الدعوى وسخر منها ، من بينهم مؤرخ العلم البلجيكي العملاق جورج سارتون حيث قال في مقدمة كتابه (تاريخ العلم ): " فمن سذاجة الأطفال أن نفترض أن العلم قد بدأ في بلاد الإغريق ، فإن " المعجزة " اليونانية سبقها آلاف الجهود العلمية في مصر وبلاد ما بين النهرين وغيرهما من الأقاليم ، والعلم اليوناني كان إحياء أكثر منه اختراعا " جورج سارتون ، تاريخ العلم ، دار المعارف ، ج 1 ، ص 20-21.
وحينما تحدث أيضا عن الوثائق العلمية قال: "نجد غالبا أن الوثائق الخاصة بالعلم في مصر وبلاد ما بين النهرين أدق من وثائق العلم الإغريقي ، إذ الواقع أن علماء المصريات والآشورات موفقون في أن لديهم وثائق أصلية ، على حين يضطر علماء الهيلينيات إلى القنوع بوثائق مجزوءة في مقتبسات وآراء غير أصلية وبنسخ من نسخ بعدت المسافة الزمنية بينها وبين أصولها" المرجع السابق ، ج 1 ، ص 21.
ومن يطلع على كتابات المنصفين ، سيرى بكل وضوح ، عظم شأن الحضارات الشرقية وفضلها على الحضارات الغربية قديما وحديثا. قال مؤسس تاريخ العلوم الأمريكي جورج سارتون: "الرياضيات البابلية أو السومرية على الوجه الصحيح ، كانت أقدم من الرياضيات اليونانية بزمن مديد ، إن شئت فقل بألف عام ، وقد ساعد شرحنا على تفسير بعض الشوارد في الرياضيات اليونانية ، فنحن ندرك الآن أن اليونان قد نهضوا على أكتاف عمالقة شرقيين ، كان بعضهم مصريا ، والبعض الآخر على ضفاف النهرين: الفرات والدجلة وما بينهما" المرجع السابق ، ج 5 ، ص 206- 207.
لقد كانت مساهمات الإغريق كبيرة في مجال الفلسفة ، ولا ينكر هذا إلا متعصب أو جاهل ، لكنها كانت صفر اليدين في مجالات العلم التجريبي. بل كانوا عالة على الشرق فيما نسب إليهم من اختراعات واكتشافات علمية في العصر الهللينستي. فهذا الإسكندر المقدوني - تلميذ أرسطو - لا تنكر المصادر الغربية أنه استفاد من الشرق ، بعد احتلاله له ، خصوصا مصر وبلاد الرافدي ، حيث أدهشه ما رآه من اختراعات واكتشافات علمية أنتجت وسائل شتى صالحة لاستخدامات الناس في مجالات الحياة المختلفة، كانت عملاقة بمقاييس ذلك العصر، فقام بنقل تلك التجارب لليونان بعد أن كان علمهم مجرد تأملات عقلية.
حتى المدرسة الواقعية القائمة على المنهج الحسي المبني على الاستقراء عند أرسطو لم تكن قبل ذلك الحين إلا نظرية لا أثر لها يطبق على واقع حياة الناس. وهذا ما أثراه بشكل ممتع العالم والمؤرخ الأمريكي جون ويليام دريبر، وإن شاء الله تعالى سيكون هذا موضوعي القادم، ثم سأتطرق في حلقات قادمة إلى سبق الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية المعاصرة بما يزيد على ألف عام في مجالات العلوم التجريبية والتمدن، وبذلك نكون قد تأكدنا بأن دعوى السبق الحضاري الغربي مجرد دعوى تجانب الواقع الموضوعي من كل وجه.