بعد الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا في السادس من الشهر الجاري، يبدو أن التأثيرات السلبية على من بقي حيا من السكان لن تكون أقل قتامة من آلاف القتلى والجرحى ضحايا الزلزال، بل وصلت تأثيرات الزلزال إلى مدن لم يضربها.
أبرز تلك التأثيرات التي ستمتد لسنوات هي موجات النزوح التي تبدو الأكبر من نوعها، حيث حجوزات الحافلات ومقاعد الطيران ممتلئة لأيام، بينما يضطر كثيرون إلى استئجار سيارات خاصة للوصول إلى وجهتهم.
ويبدو أن قسما كبيرا من النازحين استقروا في أقرب الولايات الواقعة خارج نطاق الولايات المنكوبة مثل قيصري ومرسين، بينما أكمل آخرون الطريق نحو ولايات أخرى مثل إسطنبول وإزمير وأنقرة، حيث يوجد أقارب أو أصدقاء لهم.
وأدى ما سبق إلى ظهور أزمات جديدة بدأت تعاني منها المدن المستقبلة لحركة النزوح، يبدو أن أبرزها صعوبة إيجاد منازل للإيجار بأسعار مناسبة، خصوصا مع توقف عدد كبير من النازحين عن العمل خلال الفترة الماضية.
ولدى التواصل مع عدد من العائلات التي نزحت من ولايات مثل هاتاي وغازي عنتاب وكهرمان مرعش، فإن أغلبهم لم يحسموا قرارهم بعد، هل سيستقرون في الولايات الجديدة أم سينتقلون إلى أخرى أم سيعودون إلى مدنهم، وسط حيرة واضحة تعلو ملامحهم.
انطلقنا خلال اليومين الماضيين في رحلة استغرقت 5 ساعات من غازي عنتاب نحو كهرمان مرعش، ثم مررنا بمنطقة جوكسون التي تحدث فيها حتى اليوم العديد من الهزّات الارتدادية يوميا، حتى وصلنا إلى مدينة قيصري.
أثناء التجول في المدينة برفقة سكّان يستقرون بها، يقول جعفر محمد (لاجئ سوري من سكان قيصري) إن "المدينة باتت مزدحمة بالسكان القادمين من هاتاي وكهرمان مرعش وغازي عنتاب، في السابق كان من أسهل الأمور إيجاد منزل للإيجار وبسعر رخيص، الآن بالكاد تجد منزلا رخيصا لاستئجاره".
وفي حديثه للجزيرة نت، يتابع محمد أن "هناك عائلات بدأت تنقل أثاثها من الولايات المنكوبة، يبدو أنهم يريدون الاستقرار لفترة طويلة في قيصري، البعض منهم يبحث عن عمل الآن في المدينة".
تمكّن الشاب برفقة صديقه مهند من تأمين احتياجات أكثر من 3 عائلات وصلت منذ أيام إلى المدينة، سواء من ناحية تأمين منازل مجانية لهم وجلب الأثاث اللازم، إضافة إلى المساعدة بتوفير فرص العمل لهم حتى يستقروا بشكل مؤقت. مع استمرار الهزّات الارتدادية والدمار الذي شهدته مدن الجنوب خاصة كهرمان مرعش، يقضي السكان أيامهم بين تنظيف منازلهم وحمايتها في النهار والمبيت في الخيام في الليل، بينما انتقل قسم منهم إلى مزارع يملكونها خارج المدينة. بلال العمر، أحد سكان مدينة كهرمان مرعش، يقضي مع أقاربه الشباب لياليهم في خيمة قريبة من منازلهم، بينما بقية أفراد العائلة خارج المدينة. يقول العمر للجزيرة نت "الغالبية العظمى من اللاجئين السوريين، الذين يتجاوز عددهم حاجز 96 ألفا في كهرمان مرعش، انتقلوا إلى ولايات أخرى بالأخص إزمير حيث توجد فرص عمل".
ويضيف أن "هناك قلة قليلة من الأتراك الذين عادوا إلى منازلهم ليس للإقامة، إنما لتنظيفها وتفقّدها، بينما قررت عائلات تركية نقل أثاث منازلها إلى ولايات أخرى أو البقاء في الخيم". وحسب الشاب، فإن السكان المتبقين في كهرمان مرعش يترقبون حصولهم على (كرفانات) بدلا من الخيم منتظرين بناء منازلهم الجديدة، إذ لم يستطيعوا مغادرة المدينة نهائيا، خاصة أولئك الذين لديهم أملاك ومحال تجارية ومشاريع ظلوا بسببها في المدينة". سيركان ديمير (مواطن تركي 37 سنة) أحد سكان مدينة كهرمان مرعش ممن قابلناهم أثناء رحلتنا، لا يعرف إذا كان سيعود إلى مدينته بعد أشهر أم سينتقل بشكل دائم إلى مدينة أخرى. يقول ديمير للجزيرة نت "منزلي الكائن في حي كايا باشي في مرعش بات مدمرا وغير قابل للسكن، ظللت في خيمة مع عائلتي يومين من ثم سافرنا إلى أنقرة حيث أقارب لنا، وجئت لأتفقد المنزل". ويتابع أنه يبحث في الوقت نفسه عن منزل للإيجار في أنقرة للاستقرار بضعة أشهر ريثما يعرف ما سيحلّ بمنزله في مرعش، وليس من الواضح أنه سيستقر بشكل دائم في أنقرة أم سيعود إلى مدينته بعد أشهر. وفي شوارع كهرمان مرعش، يمكن ملاحظة أن هناك العديد من الخيام المنصوبة على أطراف الشوارع وبجانب البعض منها سيارات خاصة، في مشهد يبدو فيه أن العديد من العائلات لم تقرر بعد الخروج إلى مدينة أخرى والاستقرار فيها. حسب حديثنا مع عدد من سكان قيصري، يبدو أن المدينة شهدت ارتفاعا ملحوظا في السكان سبّب أزمات مثل ازدياد الطلب على المنازل المعروضة للإيجار، بينما لا توجد أرقام دقيقة للزيادة السكّانية التي شهدتها مدينة قيصري، خصوصا أن قسما كبيرا من النازحين لم يعلم السلطات بعد بانتقاله إليها.
في هذا السياق، قال رئيس بلدية مرسين وهاب ساتشار إنه يتوقع إقامة ما يقارب 35 ألف عائلة من أصل 70 ألف عائلة قدمت إلى مرسين من مناطق الزلزال وذلك بشكل دائم، مضيفا أنه لوحظ استهلاك في المياه في مرسين بمعدلات مرتفعة. وبات قسم من الواصلين إلى مرسين يفكرون في نقل أثاث منازلهم من المناطق المتضررة بنية الاستقرار لمدة طويلة، الأمر الذي سيشكل تحديات جديدة أمام إدارات هذه المدن. وتشهد المدينة المشكلة ذاتها في قيصري، من حيث قلة المنازل المعروضة للإيجار في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار الإيجارات ارتفاعا كبيرا في المناطق التي لجأ إليها معظم الناجين من مناطق الزلزال. الجدير بالذكر أن وسائل إعلام تركية تحذر من تغيير ديمغرافي قد يحدث في مدن مثل مرسين وقيصري ونيغدة وكير شهير وماردين وشرناق وباطمان، وغيرها من المدن التي استقبلت عشرات آلاف الناجين من الزلزال في الأيام القليلة الماضية، داعية إلى التعامل مع الآثار الناجمة عن ذلك.