تتشابك خيوط الفرح والحزن كأطراف الحبل الرفيع، التي لا يمكن فصلها دائماً، حتى وإن حدثت هزّة أرضية عنيفة بحجم تلك التي ضربت المغرب ليلة الجمعة الماضية، وأزهقت معها أرواحاً كثيرة، وأحلاماً وآمالاً كانت على أهبة الارتقاء إلى الواقع.
قصة حب دمّرها الزلزال
هنا قرية تنصغارت الواقعة على جانب واد يمر به طريق من مراكش إلى جبال الأطلس الكبير، والبعيدة كيلومترات معدودة من بؤرة الزلزال، حيث كان من المفترض أن يقام حفل زفاف، يجمع بين قلبي فاطمة وعزيز اللذين تواعدا على الحب والبقاء سوية في السراء والضرّاء، ليكتبا قصة حب أمازيغية باركتها القبيلة منذ أربع سنوات وخرّبها الزلزال في ثوان معدودات.
يحكي عزيز لـ"النهار العربي"، بحسرة كبيرة، كيف كان يستعد وخطيبته والعائلة للعرس الذي كان مقرّراً الأربعاء، أي بعد أقل من خمسة أيام من ليلة الفاجعة: "كنا في صدد التحضيرات الأخيرة، فكما هو معلوم العرس الأمازيغي يمتد لأيام. كنا سعداء جداً والفرحة تغمرنا. باشرنا وضع اللمسات الأخيرة وكان كل شيء طبيعياً. يوم الجمعة وقبل الزلزال بساعة وصلتني رسالة من خطيبتي تُخبرني فيها أنها وبنات البلدة سيقمن حفلة الحمام بطريقة تقليدية، وأن والدها سيزورنا غداً. سعدت لسعادتها ولم أكن أعلم أنها الرسالة الأخيرة".
الساعة الحادية عشرة وبضع دقائق، تحركت الأرض لتنسف قرية تنصغارت في منطقة أسني القريبة من مركز الزلزال بنحو 20 كلم، وتُزهق العشرات، ومن بينهم فاطمة ووالداها وشقيقاها وأسرة عزيز كاملة، عدا والده الذي كان برفقته في أحد الأحواش، ما حال دون إصابتهما بأضرار بليغة، عدا الضرر والصدمة النفسية التي يؤكد الشاب الثلاثيني أنها "لن تمضي ببساطة، لأن الجرح والألم أعمق من أن تصفهما الكلمات".
يقول عزيز لـ"النهار العربي" إنه سمع ووالده وصديقه من أبناء البلدة دويّ صوت قوي لن ينساه أبداً، وربما هذا الصوت حال دون إحساسه بارتجاج الأرض من تحته، وفجأة انقطعت الكهرباء فركبوا سيارته بسرعة كبيرة وذهبوا إلى قريتهم التي وجدوها حطاماً، وقد انعدمت الرؤية بسبب الظلام وموجة الغبار التي غطّت المشهد وأعتمت الرؤية.
لم يتوقّع عزيز أن تتعرض بلدته الهادئة لزلزال أبداً، "فهي ليست منطقة زلزالية، كما أنها بعيدة من البؤر التي لطالما درسنا عنها في مادة الجغرافيا، ولم يسبق لبلدتنا أن عاشت أي واقعة من هذا النوع. كانت مفاجأة صادمة ومأسوية، فرائحة الموت منبعثة من كل حدب وصوب. ورغم مُضي عشرة أيام على الواقعة لا نزال تحت وقع الصدمة، فقد فقدنا والدتي وإخوتي وعائلتي وخطيبتي التي لطالما حلمت بحياة هانئة وسعيدة في القبيلة وكل هذا لم يحصل. أبكيها بحرقة وأبكي قريتي وعائلتي والجميع".
نهاية دراميّة لمكالمة هاتفيّة
أما محمد، المُحاسب الشاب الذي غادر قريته في دوار أمزميز، صوب الدار البيضاء قبل أربع سنوات، فقد تسبب الزلزال في فقدانه نعيمة ابنة عمه التي تزوجها قبل سنة. حين وقوع الزلزال كانت في شهور حملها الأولى، ما يجعل الحزن "مضاعفاً".
يقول محمد، إنه كان لحظة الزلزال يحادثها هاتفياً لتُطَمئنه إلى صحتها والجنين، وأيضاً لترتيب سفرها إلى البيضاء، "لكن فجأة قالت إنها تحس بحالة دوخة، ثم انقطع الخط"، يقول الشاب الثلاثيني مضيفاً: "عاودت الاتصال وقد أحسست بدوري باهتزاز أرضي أخرجني إلى الشارع، وبقيت لساعات أحاول الاتصال لكن لا مجيب. في البداية كان الهاتف يرن فعلاً لكن بعدها لم أتمكن من الوصول إليها أو إلى عائلتي أو عائلتها، وددت إخبارها أن هزة أرضية حدثت في الدار البيضاء، ولم أدرك أن الهزة الحقيقية قد أزهقت روحها وروح ابني الجنين".
ويحكي محمد لـ"النهار العربي" كيف تلاشت قريته الصغيرة وكأنها لم تكن، بعدما تسببت في مقتل معظم عائلته وجيرانه وأصدقائه: "بعدما عدت إلى القرية بدت وكأنها المرة الأولى التي أزورها وليست نفسها التي ولدت فيها. بيتنا هدم بالكامل وفي قلبه والدي وإخوتي وزوجتي وابني، فقط شقيقي الأكبر نجا، أما بيت عمي فقد انهار هو الآخر... صدمتنا كبيرة وفاجعتنا أكبر، فكل مخططاتنا وأحلامنا وحساباتنا أُسقطت في ثوان معدودات".
قصة حفل الزفاف الذي أنقذ كثيرين
وخلافاً لمحمد وعزيز، من كان ليصدّق أن حفل زفاف في قرية صغيرة بين أحضان جبال الأطلس الكبير وبالضبط في قرية تُدعى إيغيل نتلغومت، قد يكون سبباً في إنقاذ أرواح جميع السكان من الزلزال الذي دمّر البيوت كلياً ولم يُصب سكانها بضرر؟
تعود تفاصيل هذه الحكاية الغريبة إلى عرس نُظم في فناء خارجي كعادة الأعراس الأمازيغية التي لا تحتاج دعوة إلى الحضور، فبمجرد إعلان موعد الزفاف يعني أن الجميع في القبيلة مدعوّون، وهي عادة أمازيغية معروفة منذ عقود، ولم تكن العروس حبيبة أجدير (22 عاماً) وزوجها مزارع التفاح محمد بوضاض (30 عاماً)، ليكونا استثناءً بهذا الخصوص.
ووفق العادات والتقاليد الأمازيغية العريقة، أقامت عائلة العروس في بيتها حفل الحناء ليلة الجمعة بحضور جميع سكان القرية الذين تراقصوا على أنغام الموسيقى الأمازيغية، وهو ما أظهره مقطع فيديو صوره أحد المدعوين لحظة وقوع الزلزال حين تحول مشهد الموسيقيين الذين يرتدون أزياء محلية ويعزفون على المزامير والطبول المصنوعة من جلد الماعز فجأة إلى فوضى وظلام وصراخ.
وفي تقرير لوكلة "رويترز"يحكي العريس بوضاض الذي بقي وزوجته يرتديان ملابس زفافهما بعد مرور نحو أربعة أيام على الزلزال الذي دفن متعلقاتهما تحت الأنقاض، أن الزلزال أصابه بالخوف على زوجته وهو ينتظرها في قريته، مضيفاً: "أردنا أن نحتفل. ثم وقع الزلزال. لم أكن أعرف ما إذا كان علي أن أقلق على قريتها أم على قريتي".
وقال إن الزلزال أصاب زوجته بصدمة شديدة لدرجة أنها لم تعد ترغب في التحدث إلى الغرباء.
وأفاد سكان بأن القرية الفقيرة تحولت إلى أنقاض، وأصبح الكثير من سكانها بلا مأوى الآن، لكن على عكس مناطق أخرى من منطقة أداسيل، القريبة من مركز الزلزال، لم تقع وفيات أو إصابات خطيرة، إذ أنقذهم العرس من الموت.
وظهر الناس في مقطع الفيديو وهم يصرخون "زلزال" أو ينادون على أفراد أسرهم وقد استخدموا أنوار الهواتف المحمولة بعد انقطاع الكهرباء.
وأصيب شخص واحد فقط في قرية إيغيل نتلغومت، هو أحمد آيت علي أوبلا البالغ من العمر ثماني سنوات، عندما سقطت صخرة على رأسه وأصابته بجرح قطعي، وشوهد في الفيديو ووالده يحمله لإبعاده من الخطر.
نجاة جماعية من موت محتوم
وكان الحفل مجرد حفل حناء يسبق ليلة الزفاف قبل مغادرة العروس إلى منزل العريس بوضاض الذي كان ينتظرها في كطو، ورغم الكارثة، سافرت العروس إلى بيت زوجها يوم السبت مع شقيقه وزوجته، اللذين كانا في الحفل، تاركة وراءها هدايا زواجهما.
وأمام تضرر الطرق بالهزة الأرضية، اضطرت العروس ومرافقوها إلى السير على الأقدام طوال الطريق، وعندما وصلوا إلى هناك وجدوا أضراراً واسعة النطاق، لكن لم تقع وفيات.
وأنقذت هذه المناسبة الاجتماعية العديد من الأرواح، إذ جاء كثيرون من القرى المحيطة بإيغيل نتلغومت للاستمتاع باحتفال عائلة أجدير وتقاسم وجبة من لحم البقر المطهو، لينجوا جميعاً بذلك من مصير مجهول ربما كان ينتظرهم تحت الأنقاض لولا خروجهم للمشاركة في الاحتفال.
وكان والد العروس محمد أجدير (54 عاماً) قد نصب خيمة كبيرة في باحة منزله لضيوف الحفل، غير أن هذه الخيمة تُستخدم الآن كمأوى للقرويين الذين يقولون إنهم سيحتاجون قريباً إلى ملاجئ أكثر قوة مع التوقعات بأن يكون الطقس أكثر برودة في وقت لاحق من الأسبوع الجاري.
والمصير المروع الذي نجا منه سكان إيغيل نتلغومت كان واضحاً للعيان على بعد بضعة كيلومترات أسفل الطريق الجبلي المتعرج المؤدي إلى مراكش، حيث دمرت قرية تيكخت بالكامل تقريباً.
ولم يبق أي منزل قائماً، ولقي نحو 68 شخصاً حتفهم من بين سكان القرية البالغ عددهم 400 نسمة.
لكن رغم نجاة سكان إيغيل نتلغومت، لا يزالون بحاجة ماسة إلى المساعدة ويمكن رؤية بعضهم وهم يسيرون تحت سفح الجبل لطلب المساعدة من السلطات، وبات جميع الناجين في كطو يتقاسمون إمداداتهم الضئيلة، وقال محمد أجدير: "القرية عائلة كبيرة، نتقاسم كل ما نحصل عليه".