قبل أن أدخل في الموضوع أذكر قصة طريفة قرأتها في سيرة عبدالوهاب المسيري، وهو باحث فيلسوف يبحث فيما وراء الظواهر.
ذكر أن المصريين يرون في لحم الدجاج أجود أنواع اللحوم، وأن أفضل الولائم عندهم هي ما اشتملت على لحوم الدجاج، وعندما ذهب إلى أمريكا وجد الدجاج رخيصا جدا مقارنة بسعره في مصر، وعدّ هذا إحدى نعم الهجرة عليه وعلى أهل بيته، وكان يحب العزومات، وفي وجبة العزومة كان يكرم ضيوفه بلحم الدجاج، ثم اكتشف أن الأمريكان ينظرون إلى لحم الدجاج نظرة غير نظرة المصريين مقارنة بلحوم الضان والماعز والبقر.
ذكر أن نظرته وزوجته للحم الدجاج تغيرت، فلم يعد يطعمه كما كان يطعمه من قبل، وصار للحم الغنم ميزة لم تكن له ولا لزوجته في مصر، أي أن تقدير الإنسان لوجبة الطعام يتعلق بعلم النفس الاجتماعي وما يرتبط به من أفكار وأحوال.
تذكرت الدخن والذرة والقهوة، وكيف استنقصها الناس في بلادنا مع بداية التغير الحضاري بعد الثورة، مع أن البُنَّ اليافعي أفضل من الشاي بكثير، وأغلى منه ثمنا في مولات العالم، والقيمة الغذائية لحبوب الذرة والدخن أفضل بكثير من قيمة حبوب البر المستوردة التي تتعرض زراعتها للتهجين والتسميد غير الصحي فيما يُورّد إلى بلدان العالم الثالث.
أعرف أناسا مثقفين وحضاريين وأناسا من الأطباء ومساعديهم بعد أن تقدموا في السن، وتغيرت نظرتهم العلمية صاروا يبحثون عن الدخن والذرة ويعدونهما كنزا غذائيا ذا قيمة عالية.
لاحظت على ابنتي الصغيرة أنها تأكل الدخن بطيبة نفس، وتفضله على البر، بخلاف ما كنا نعرفه عن الأطفال والشباب، والسبب بظني أنها لم تتعرض لتثبيط نفسي عن الدخن والذرة على أنهما علامتان على التخلف الحضاري.
عندما تأكل الدخن لا يضحك منها أحد، ولا أحد يلتفت إليها ضاحكا مستهزئا قائلا: (بتوكلين دخن وذرة! لمه انتي عجوز؟!).
كان من سلبيات التغير الحضاري أن الشباب صاروا ينظرون للشاي والبر على أنهما تقدم، والقهوة والدخن والذرة على أنها تخلف، ولهذا لم يعودوا يطيقون طعم هذا التخلف.
جربوا مع أولادكم مدح الدخن والذرة والقهوة، وأنها قيمة غذائية طبيعية صحية تطلبها المجتمعات الراقية، وأنها تحافظ على رشاقة الجسم، وتحاصر الدهون و و و مما يهم شباب هذا الزمان.
ستجدون الاعتبار عاد لهذه المحاصيل، وربما نجد الناس يدمرون القات ويزرعون بدلا منه البن والذرة والدخن، وسيجد المزارعون لهذه المحاصيل قيمة ربحية أفضل من قيمة القات، وربما نجد المدرجات والجِرَب التي أهملت يعاد إليها الاعتبار، ويأتي العمال الشقاة يطلبون الله فيها، وسنجد تطويرا للوسائل الزراعية أجدى من الخنزرة، وتسميدا علميا أفضل من التسميد التقليدي، وحياة في الريف تتبعها تنمية تقلل من الهجرة إلى المدينة.
وعاش شعب يأكل من منتجات بلده.