تلقت يافع اليوم خبراً صادماً أثار حزنها ومخاوفها، وهو وفاة نجل آخر سلاطينها، الرجل المثقف المحترم الأستاذ فضل بن محمد عيدروس رحمه الله.
مما زاد الأمر حزنا أن يافع مثلها مثل بقية المناطق تمر في هذه المرحلة التاريخية الصعبة بظروف غير عادية، تتمثل في ضعف الدولة بسبب انقلاب الحوثيين وتدخلات الخارج، فلايافع هي يافع قبل الثورة، ولا هي يافع قبل الوحدة، ولا هي يافع قبل هذه الظروف الأخيرة التي سببت ضعف الدولة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كانت يافع قبل الثورة ثم قبل الوحدة في عقد اجتماعي نموذجي؟ الجواب: يحتاج إلى سرد تاريخي:
نشأ العقد الاجتماعي في تاريخ يافع الحديث في القرن الحادي عشر الهجري كنتيجة من نتائج مقاومة طغيان الدولة القاسمية الشيعية، وهو بطبيعة الحال عقد غير مكتوب ولكنه مفهوم وإن لم يستطع الإنسان العادي فلسفته وتحليله، أخذ فيه كل واحد مكانته وفقاً لدوره في تلك المقاومة، وقد كان عقدا غير نموذجي فهو أشبه بنظام عسكري بين أفراد جيش يتخذ من الكفاءة القتالية معيارا في التصنيف، ولكنه رغم هذه السلبية كان من إنتاج القوم ويعبر عنهم.
بمجيء الاستعمار البريطاني حصل فساد واضح في العقد الاجتماعي في مناطق المحميات عموماً ومنها منطقة يافع، وذلك باعتماد الاستعمار سياسة (فرِّق تسد) التي تقوم على التجهيل والإفقار والمحارشة بين الناس بغرض السيطرة على مقاليد الأمور، فمنذ أن وقّع السلاطين و المشائخ معاهدات الحماية مع الاستعمار البريطاني فقدوا استقلالهم واستقرارهم وقرارهم، لأن التابع لابد أن يدفع ثمن تبعيته، وبسبب هذه التبعية للمستعمر الأجنبي لازال العقد الاجتماعي ينهار تدريجيا وتزداد الأمور سوءًا إلى أن وصلنا إلى مرحلة السلطان محمد بن عيدروس.
كان السلطان محمد رجلا وطنيا غيورا مثقفا عرف ضرر الاستعمار وخبثه وأثره السيء على البلاد والعباد عموما وعلى السلطنة خصوصا التي بدأ يساعد في إدارتها بسبب شيخوخة أبيه السلطان عيدروس، فاكتشف أنها فاقدة لروح الدولة، وأنها صارت مجرد كيان وظيفي مع الاستعمار البريطاني، وأن الاستعمار يتدخل بكل شؤونها ويديرها بحسب أجندته، وبعد أن يئس من خير يأتي من قبل الاستعمار قرر الثورة عليه، وهو الأمر الذي أدى إلى خروجه من الحصن واعتصامه بالجبال التي وصلتها طائرات الاستعمار الحربية فقصفت بيوته وبيوت المناصرين له مما اضطره إلى مغادرة البلاد إلى شمال الوطن. بعد رحيل الاستعمار كانت الصدمة للسلطان الثائر من الثوار المتطرفين بسبب مواقفه الواقعية، وموقعه الاجتماعي على رأس هرم العقد الاجتماعي اليافعي فقد كانوا يصنفونه نظاما معاديا وفق الفلسفة الماركسية التي اعتنقوها، حتى وصل الأمر بهم إلى أنهم قتلوه مع نخبة من مشايخ وعقال يافع، وأدخلوا البلاد في عقد اجتماعي جديد يقوم على إقصاء الوجاهات المالية والاجتماعية والعلمية والانتصار للمعدمين والفقراء بطريقة ثورية عنيفة ظالمة، وهو الأمر الذي أدى إلى هروب رأس المال ومن يملك رأس المال ومن كانت له وجاهة ومكانة اجتماعية وسياسية ودينية في النظام القديم، وسكون من لم يستطع الهروب تحت ظل العقد الاجتماعي الحادث وفيهم من الشعور بالظلم والقهر ما فيهم.
الفقيد فضل بن محمد عيدروس كان حينها طفلا صغيرا، وقد نجا مع من نجا واستطاع الهروب مع عائلته خارج الوطن، وفي الغربة تشكلت شخصيته من عدة عوامل:
أبرزها تاريخ والده العظيم والمؤلم، ورغم أني لا أعلم عن تفاصيل تاريخه الشخصي ومكان لجوئه إلا أنني اتخيل بطبيعة الحال أنه تلقى قصة أبيه وبطولاته بالتفصيل، وهو الأمر الذي أورث في نفسه شعورا بالظلم، ورغبة في استئناف دور أبيه، وفي المقابل وبطبيعة قلوب الأمهات وإشفاقهن على فلذات أكبادهن أتصور أنه كان يتلقى تحذيرات مستمرة من قبل من يشفق عليه من أقاربه يحذرونه من عالم السياسة الغدار تحت صدمة الكارثة التي أصابت العائلة.
وثاني العوامل مستوى محترم من التربية والتعليم والثقافة جعله إنسانا ذا علم وثقافة وإنسانية ومربيا ذا فكر فلسفي تأصيلي.
وثالثها الغربة ومآسيها، فإن الذي يعيش لاجئا خارج وطنه يكتشف اكتشافات مؤلمة، خلاصتها أنه ليس من عمق النسيج وإنما يُنظر إليه باعتباره ضمن جماعة وظيفية فحسب، وهو الذي يعزز شعور المغترب بالحاجة الماسة إلى الوطن مهما حقق من إنجازات في بلاد الغربة.
كانت الوحدة اليمنية انفراجا للنخبة التي اضطرت للهجرة خارج البلاد ونمّت رأسمالها ومستوى أولادها التعليمي والثقافي وتطلعت للعودة إلى الوطن والمساهمة في بنائه في عقد اجتماعي جديد.
في يافع كان من محاسن هذه المرحلة هو التعايش السلمي بين النخبة المهاجرة وامتداداتها في الداخل وبين الذين أداروا الدولة والعقد الاجتماعي بعد الثورة، فلم نسمع أبدا عن توجه للانتقام أو التصادم، وإنما ساد العقل والمنطق والاعتدال بين عقدين اجتماعيين قديمين انصهرا في عقد جديد لم ينتصر لهؤلاء ولا لهؤلاء.
كان للشيخ فضل رؤية ليافع باعتباره وفق النظام الجديد من المفترض أن يكون شيخ مشايخها على نمط شيخ مشايخ حاشد، ولكن هذا لم يحصل، ولعله كان خيرا ليافع، فإن شعور الفئتين المتنافستين في يافع أنهما خارج نواة السلطة الجديدة كان مما ساهم في الشعور بالمسؤولية والتعايش الطيب، وبالمقابل فإن روح الدستور والقوانين والشُّرط والنيابات والمحاكم وتعدد الأحزاب وصناديق الاقتراع والنظام الجمهوري عموما الذي كانت ثقافته قد ترسخت في جنوب اليمن يعد أفضل من النظام القبلي.
ولهذا سكن الشيخ فضل وانطلق الناس في شؤونهم إلى أن ثار الشعب وبرز المشهد السياسي الجديد الذي تتصارع فيه رؤى سياسية واجتماعية واقتصادية تتلخص فيما يلي:
رؤية تريد إعادة بوصلة الحركة إلى ما قبل الثورة، وهو ما يعني عودة الإمامة في الشمال، وعودة المشيخات والسلطنات والاستعمار بطبيعة الحال.
ورؤية تريد إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الوحدة.
ورؤية تريد الحفاظ على الشرعية الدستورية المعترف بها دوليا.
كان الفقيد رحمه الله هو رمانة الميزان بين هذه الرؤى في يافع، وكان يؤمَّل منه أن يكون رمزا لصياغة رؤية جديدة لا تعود إلى الماضي ولكنها تتطلع إلى المستقبل، وكان مرشحا لهذا الدور لثلاثة اعتبارات:
الاعتبار الأول: أنه سليل السلطنة العفيفية التي كانت موجودة قبل الاستعمار البريطاني.
والاعتبار الثاني: أنه نجل السلطان محمد عيدروس، وهو سلطان كان حرا ثائرا على الاستعمار البريطاني وذو توجهات وطنية أوسع من مجرد مشيخة وإن كانت تسمى سلطنة.
والاعتبار الثالث: أنه بطبعه شخصية وطنية مثقف ومتعلم يحترم الدستور والقوانين واللوائح ويكره الظلم والاستبداد والطغيان والإقصاء.
ففي شخصيته كانت تتشكل في يافع معالم رؤية مستقبلية تصالحية تسامحية تحترم شخصية يافع التاريخية، وشخصيتها النضالية ضد الاستعمار ومساهمتها في تأسيس الدولة الحديثة، وتحترم الدستور والقوانين واللوائح، وتتطلع إلى المستقبل ولا تعود إلى الماضي إلا بغرض الاستفادة من دروسه وعِبَره لا غير.
الله يرحمه ويرضى عنه ويسكنه فسيح جنته ونسأل الله أن يجبرنا في مصابنا ويخلف لنا خيرا.