كتب/جمانة فرحات
يمضي عسكر السودان، بغطاء الحكومة، بخطىً ثابتة، في التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي. لم تكن الطائرة التي حطت في مطار الخرطوم قبل أيام آتية من مطار اللد (بن غوريون) مباشرة، الخطوة الأولى، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة، وإن كان سبب هبوط الطائرة ومن الذي حملته على متنها لا يزال غامضاً، والأرجح، كما العادة، أننا سننتظر ما تنشره الصحف الإسرائيلية، لا السودانية، لاتضاح الصورة.
قبل هبوط الطائرة، تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عن اتصال أجراه بقيادة السودان للتهنئة بعيد الفطر ضمن اتصالات شملت قادة عربا آخرين. وهؤلاء باتوا معروفين لا حاجة له حتى لتكبّد عناء تعدادهم، لا سيما في ظل العلاقات المتصاعدة معهم، والتي انتقلت من مرحلة التطبيع إلى مرحلة التحالف الوثيق. ولم يستدع ما أعلنه نتنياهو موقفاً رسمياً أو شعبياً في السودان وكأن ما قاله تحصيل حاصل. عندما كُشف عن اللقاء بين نتنياهو ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، في أوغندا في فبراير/ شباط الماضي، خرج الأخير بوقاحة لتبرير ذلك لاعباً على نغمة تحقيق مصالح الشعب أولاً. ادّعى يومها أن الخطوة ستفتح الأبواب المغلقة أمام السودانيين، وأن الثمن سيظهر سريعاً بنهاية زمن العزلة الدولية ورفع العقوبات المفروضة على السودان جرّاء وضعه على لائحة الدول الراعية للإرهاب التي تصدرها الولايات المتحدة التي كانت أول من سارع إلى تهنئة الخرطوم على اللقاء الذي شاركت في ترتيبه. ولم ينس يومها أن يردّد بضع كليشيهات بشأن القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم التي يقضم ما تبقى من فرص لها نتنياهو الذي مد البرهان اليد لمصافحته. لم يكن حينها الرد في السودان الرافض للقاء، على المستويين السياسي والشعبي، على قدر التوقعات. كانت التظاهرات التي احتجت محدودة، وقابلتها آراء تلوك المسوغات لخطوة التطبيع. أما نفي حكومة عبد الله حمدوك معرفتها بالاجتماع فسرعان ما سقط بإعلان البرهان نفسه إبلاغه رئيس الوزراء عن لقائه نتنياهو قبل حدوثه. ولا يمكن نسيان أنّ وزيرة الخارجية، أسماء محمد عبد الله، كانت أول من أثار في سبتمبر/ أيلول 2019 التساؤلات عما إذا كان هناك اتصالات تُجرى خلف الكواليس عندما كرّرت في مقابلتين أن السودان قد يقيم علاقات مع إسرائيل على قاعدة أن "لا شيء ثابت في السياسة". وهو ما كان البرهان سباقاً للقيام به علناً، عبر لقائه نتنياهو، ومن ثم التبرير له، متكئاً على قاعدة أن "مصلحة السودان" لا تعارضها سوى "مجموعات آيديولوجية محدودة"، على حد قوله في إحدى مقابلاته. يشهد كل ما يجرى منذ ذلك الحين على انتقال الخرطوم من أنها عاصمة اللاءات الثلاث (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل) إلى مرحلة التطبيع. كما تُلاحظ رغبة العسكر في احتكار هذا الملف، وأن كل ما أشيع عن نقله إلى الحكومة، لأنه من اختصاص "الجهاز التنفيذي"، محض تضليل. يمسك عسكر السودان بإدارة التطبيع منذ الترتيب للقاء البرهان – نتنياهو وحتى خروج المتحدث باسم الجيش قبل أيام لنفي خبر هبوط الطائرة الإسرائيلية. وهو النفي الذي دحضه ناشطون وصحافيون سودانيون بأنفسهم، راصدين مسار انطلاق الرحلة من إسرائيل إلى السودان ثم عودتها. يلخص ذلك كله الكثير بشأن العلاقات التي تنسجها إسرائيل مع الأنظمة العربية. أينما وجد حكم عسكري ونظام ديكتاتوري ومعاد للثورات والديمقراطية، كانت العلاقات تتقدّم. وهو ما يجعل من عسكر السودان، الذين تتراكم المؤشرات السياسية والأمنية والاقتصادية على حرصهم على التحكم بكل مفاصل الدولة، وتحينهم اللحظة للانقضاض والتفرّد بالحكم، الشريك الأنسب، والعضو الإضافي في محور التطبيع العربي.