الطفرة الكبيرة التي أحدثتها المنصات الرقمية في عالم الدراما التلفزيونية، ساهمت -إلى حد بعيد- في التوسع في انتشارها، خاصة بعد تدابير الحجر المنزلي التي فرضتها جائحة كورونا.
مؤخرا أعلن رجل الأعمال والإعلام التركي أجون إليجالي عن تدشين منصته الرقمية التي حملت عنوان Exxen. وصاحبت التدشين حملة إعلامية موسعة عن الأعمال الجديدة التي تسعى المنصة إلى تقديمها في الفترة القادمة.
تتميز الأعمال المعروضة على المنصة بالتنوع في تيماتها ما بين بوليسي وكوميدي وأيضا اجتماعي ينحاز لإشكاليات الواقع. كما تتسم الحلقات بالقصر والإيقاع السريع، حيث لا تتجاوز مدة الحلقة الواحدة الـ50 دقيقة، مقارنة بما كان سائدا في الدراما التركية التي يمتد فيها العمل إلى مواسم متعددة، وتصل مدة الحلقة الواحدة إلى الساعة ونصف الساعة تقريبا.
الأحلام المقتولة من الأعمال المعروضة على المنصة الجديدة مسلسل “بدون حكم” (Hükümsüz)، وهو ذو حبكة بوليسية تشويقية، وإن كان يدور في إطار اجتماعي معقد بعض الشيء، حيث يتعرض المسلسل إلى مسألة العنف ضد النساء، معتمدا على قصص حقيقية من واقع مآسي نساء فقدن أرواحهن بسبب العنف المفرط الذي مارسته الذكورية بلا هوادة.
كما يوسع من دائرة الانتهاكات التي تمارس على البشر جميعا (رجالا، نساء، أطفالا) سواء أكانوا أسوياء أم من ذوي الاحتياجات الخاصة، وخصوصا النساء، من خلال تسليط الضوء على المعاملة غير الإنسانية التي يتعامل بها تجار البشر مع الراغبين في الهجرة غير الشرعية، ومافيا استغلال الأزمات والحروب.
تدور أحداث المسلسل في عام 2015، وهو العام الذي شهدت فيه تركيا نسبة وفيات كبيرة بسبب الهجرة وصلت إلى 202 حالة حتى أواخر شهر يونيو من العام نفسه، وفقا للتقرير الإخباري الذي ظهر كخلفية للحلقة الأولى.
تلعب دور البطولة الممثلة بورشين ترزي أوغلو (مواليد 1980)، وهاندا دوغان دمير، وإسماعيل حاج أوغلو، وعلي جان يوجا سوى، ومن إخراج عمر فاروق سوراك، يصدر المسلسل في تترات البداية لكل حلقة، عبارات تناهض العنف المعلن والمستتر ضد النساء، من قبيل “أحلامك المقتولة” و”كل موت يمكن منعه هو جريمة”، و”جرائم النساء عار على البشرية”، وبعضها دينية كمقولة سيدنا علي “إذا دمعت عين أنثى بسبب ظلم رجل لها، لعنته الملائكة بكل خطوة يخطوها”، وقول الرسول “أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم”. وتأتي هذه العبارات -خاصة الدينية- كنفي لتجذر هذا العنف في المجتمع التركي والثقافة الإسلامية، بل تشدد على أن الدين ينبذه، ويدعو إلى معاملة النساء معاملة طيبة، وأن ما يحدث ما هو إلا طارئ لأسباب راجعة في بعضها إلى غياب الوازع الديني والأخلاقي، وأيضا لغياب القانون الرادع.
المسلسل يضع أقارب ومعارف الضحية في دائرة الاتهام، فالعنف دوما يبرر على أنه امتثال للناموس (الشرف)، أو بدافع الحب والغيرة. وبذلك تكون لعنة المرأة تتمثل في زوجها وجمالها وأنوثتها، وفقا لعبارة المحامية أسماء شتين (تلعب دورها في المسلسل، بورشين ترزي أوغلو) التي تقوم بالتحقيق في جرائم مسجلة ضد مجهول، أو أنها انتحار، في إغفال متعمد لسببها الحقيقي الذي يتضح أنه اعتداء سافر وبوحشية على المرأة، باختلاق أسباب وهمية.
وتعمل الأنساق المهيمنة على توفير حماية للقاتل، بإخفاء الأسباب الحقيقية للجريمة واعتبارها جريمة دفاع عن الشرف، وهو ما يجعل من هذا المجرم بطلا أمام الوسط الاجتماعي الذي يوفر له غطاء الحماية، كما في مقتل فاطمة يلماز (بطلة أول حكاية) سكرتيرة المحامي الكبير شتين أوزتورك، التي تقتل هي ومديرها برصاصات زوجها.
التقرير الأولي يشير إلى أن القتل تم بدافع الشك في وجود علاقة بينها وبين مديرها، وهو ما يتنامى للمحامية أسماء عندما تذهب لتقديم واجب العزاء لأسرة فاطمة، حيث هناك تستمع من أم القتيلة، إلى ما كانت تتعرض له من إهانة لفطية وإيذاء جسدي منذ زواجها، وزادت حدته بعد أن التحقت بالعمل في مكتب المحامي الكبير، يستغل مافيا تجار البشر، حاجة الزوج للمال، وغيرته على زوجته، فيملأون أذنيه بكلام عن علاقة بين زوجته والمحامي حتى يتخلصوا منه، وينفذ جريمته ثم يقتل نفسه.
لعنة المرأة
حكاية فاطمة تدين المجتمع بأسره، وتدين الصمت في مواجهة الظلم الذي تتعرض له المرأة، كما تندد بالإكراهات التي تمارس على المرأة كي تصمت عما تتعرض له من إهانة وانتهاك لجسدها، كما يشير إلى شبكة الضغوط التي تمارسها الذكورية لإقناع المرأة بقبول الأمر وكأنه شيء عادي. ومن جانب آخر تكشف عن استغلال النفوذ والسلطة من أجل التربح السريع، حتى ولو على حساب الطامحين في تحقيق أحلام بسيطة، بعدما أخفقت أحلامهم وتحولت إلى سراب في أوطانهم.
حلقات المسلسل (المتصلة -المنفصلة) تستعرض صنوفا متعددة من الانتهاكات والعنف اللذين مورسا على المرأة، لا فرق بين طفلة أو شابة، أو امرأة متزوجة، أو عاملة تسعى إلى الحصول على قوت يومها بشق الأنفس وسط تحرشات وابتزازات من ذكورية لا ترى في المرأة إلا جسدا لإشباع نزواتها المريضة، في إشارة بلغية إلى أنه لا يوجد أحد بمنأى عن هذا العنف وتلك الانتهاكات.
كما أن العمل يشير بطرف خفي إلى العوامل المساعدة التي تجعل من النساء ضحايا الذكورية، كالمخدرات والفقر، ووسائل التواصل الاجتماعي، والأخيرة تسهل اصطياد الفتيات، دون معرفة بهوية من تتحدث معه، أو ماذا يضمر لها.
من الحكايات المروعة التي يسردها المسلسل حكاية “مريم أورين” التي تلقى من السيارة في طريق عام، ويحرق جسدها على مرأى من حشود يكتظ بهم السوق العمومي. مريم ضحية زنا المحارم، فالزوج (سامي أوربن) المدمن للمخدرات والمسكرات، يأتي دوما بأبناء عمه من أجل السهر في بيته، وفي إحدى المرات، استغل ابن عمه الكبير (أركان أورين) حالة غياب العقل التي صار عليها الزوج، فاقتحم غرفة نوم زوجة ابن عمه واغتصبها.
لم تجد الزوجة المكلومة إلا عم زوجها ووالد مغتصبها، وبالفعل حكت له، وطالبها بالصمت حتى يتدبر العقاب اللازم لابنه الذي خرق الناموس واعتدى على الشرف، على حد قوله، كنوع من بث الطمأنينة في نفسها.
المسلسل يدين المجتمع بأسره ويدين الصمت في مواجهة الظلم الذي تتعرض له المرأة والإكراهات التي تمارس عليها
لكن الأب يقلب الحقائق، ويوسس لابن أخيه بأن زوجته (عاهرة) تراود ابنه، وأنها غير لائقة للعائلة منذ أن تزوجها، فيجب التخلص منها، لم يجد الزوج المسكين إلا الانصياع لما خططه الأب وابناه، مع أن رغبته الداخلية ترفض ما طالبوه به، وهو قتلها، وبالفعل يتدبرون خطة، بأنها ستحضر إلى مقر عمله (محطة وقود) وسوف يعتذر لها ابنه على الملأ، وعليها أن تقرر الحكم الذي تريده.
يراود الشك الضحية في ما قاله الزوج، لكن في النهاية ينجح في اصطحابها، ولكنها تفاجأ بوجود المغتصب وأخيه، وعندما تحاول الهرب، تنطلق السيارة بسرعة، ولا تجد في يديها إلا الاستغاثة، فيسكب عليها المغتصب وأخوه البنزين، ثم يلقي بها في الطريق بعد أن يشعل النار في جسدها في صدمة لكل المتواجدين في الشارع.
في مقابل المرأة المعنفة والمتحرش بها جنسيا والقتيلة، وهي صور تعكس ضعف واستلاب المرأة، هناك المرأة القوية التي ترفض الرضوخ وتوجه الاتهامات والإدانة لكافة السلطات، كأم مريم المحروقة، حيث تصرخ عاليا “من يحمي النساء؟ و”النساء يردن العيش”، وهناك أيضا يقدم المسلسل شخصيتي المحامية أسماء، وفيليز (الطالبة في نهائي كلية الحقوق، وأخت إنجه التي تعرضت للاغتصاب والقتل في ما بعد) كنموذجين للمدافعات عن حقوق المرأة.
كما لا يظهر الرجل في صورة المتحرش والقاتل فقط، فهناك الصحافي سليم (الذي يؤدي دوره إسماعيل حاج أوغلو)، الذي يقف في صف المرأة، ويستغل وظيفته كصحافي وإعلامي في تسليط الضوء على هذه الجرائم.
كما يثني العمل -بطريق غير مباشر- على الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام الحديثة، في الكشف عن الجناة الحقيقيين، وما لها من قوة تأثير في الرأي العام.
كرة النار
من الجرائم البشعة التي يستعرضها المسلسل، جريمة فتاة اسمها “إنجه سفر” لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، قادها حتفها عن طريق الشات عبر الفيسبوك إلى إقامة علاقة مع شاب لا تعلمه، تم الاتفاق بينهما على موعد، وما إن التقيا حتى اصطحبها غدرا بسيارته إلى منزله، فتفاجأ بإخوته، وبعد أن تلعب الخمر والمخدرات بعقولهم يتناوبون على اغتصابها، وتفقد وعيها، وعندما استيقظت، أرادت الخروج، وكانوا جميعا قد غابوا عن الوعي بسب الإفراط في الشراب، إلا أنها تتصادف بأختهم، التي في محاولة منها لإثنائها عن الذهاب إلى الشرطة، تقتلها، ويشترك الإخوة في إلقائها في مزرعة نائية.
عنوان المسلسل بمثابة إدانة إلى أجهزة التحقيق، التي تتراخى في البحث عن الدوافع الحقيقية للقتل، فيحصل الجاني على حكم مخفف، وكأنه خرج من جريمته “بدون حكم”.
كل حكاية من الحكايات تكشف عن الأنساق المضمرة التي يسترها زيف الصورة البراقة التي صدرتها مسلسلات الحب والعشق عن المجتمع التركي.
فالمجتمع يئن بمشكلات غير تلك التي صدرتها دراما العشق وصراع المال والمافيا، حيث ثمة مشكلات حقيقية تعيشها الأسر، وخاصة الأسر الفقيرة، وثانيا تكشف زيف شعارات الشرف والكرامة والرجولة، التي تتخذها البطريركية قناعا لتبرير جرائمهم. فالرجال دائما -وهم مقدمون على الفعل- خاضعون لسلطة أعلى، سلطة تبتزهم، إما سلطة المال وإغراءاته، وإما سلطة النفوذ والخضوع لأعراف الجماعة التي ينتمي إليها، حتى ولو كان غير مقتنع بما يفعل، فقط يفعل لمجرد الطاعة، والامتثال لهم.
في ظل هذه الغابة والرغبات المحمومة، تقلصت أحلام النساء إلى مجرد الرغبة في العيش فقط، بعد أن فقدن الطمأنينة والأمان في ظل مجتمع أبوي يفرض نفوذه وهيمنته واستبداده على المرأة، ومن ثم كانت صرخة المسلسل التي تحولت إلى وسم على مواقع التواصل الاجتماعي “النساء يردن العيش”، إعلانا للتحدي، ورفع الصوت، فعلى حد تعبير بطلة المسلسل “لقد خرجت في الطريق نار، إن تجاهلناها أحرقتنا جميعا، وإن أمعنا في التجاهل تحولت إلى حريق”.