مع التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أصبح العالم الرقمي جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للأفراد والمؤسسات، وهو ما أدى إلى ظهور أنماط جديدة من الجرائم تُرتكب في الفضاء السيبراني، وتُعرف بالجرائم الإلكترونية. وفي هذا السياق برز مفهوم الدليل الإلكتروني (الرقمي) كأحد أهم عناصر الإثبات في التحقيقات المعاصرة.
إن الدليل الإلكتروني ليس مجرد بيانات رقمية عابرة، بل هو نتاج عمليات تقنية معقدة تنشأ من تفاعل الأنظمة المعلوماتية والأجهزة الذكية والشبكات. وقد يتمثل في سجل دخول، أو بريد إلكتروني، أو محادثة، أو ملف مرفق، أو حتى أثر رقمي بسيط كعنوان IP أو بصمة رقمية لجهاز معيّن. غير أن التعامل مع هذا النوع من الأدلة يتطلب فهمًا تقنيًا عميقًا وإجراءات دقيقة تحفظ سلامة الدليل وتمنع العبث به أو التشكيك في مصداقيته.
من منظور تقني، يواجه جمع وتحليل الدليل الإلكتروني عدة تحديات، أهمها:
1. سهولة الإتلاف أو التلاعب: فالمجرم الإلكتروني غالباً ما يمتلك مهارة فنية تمكنه من حذف أو تشفير أو نقل بياناته بسرعة تفوق قدرة الأجهزة التقليدية على تعقبه. 2. تعدد مواقع التخزين: إذ يمكن أن تُخزّن البيانات في خوادم موجودة في دول مختلفة، مما يخلق إشكالية في الاختصاص القضائي وفي تطبيق القوانين المحلية. 3. التشفير والخصوصية: استخدام تقنيات التشفير القوي يجعل الوصول إلى المعلومات أكثر تعقيداً، ما يطرح معضلة بين حق الدولة في إنفاذ القانون وحق الأفراد في حماية خصوصيتهم.
ومن الناحية القانونية، لا يزال التشريع اليمني – كما في العديد من الدول النامية – يفتقر إلى قواعد إجرائية واضحة تحدد كيفية التعامل مع الأدلة الرقمية، سواء من حيث جمعها أو توثيقها أو تقديمها أمام القضاء. فالإجراءات التقليدية المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجزائية وُضعت في زمن لم يكن فيه الحاسوب جزءًا من مسرح الجريمة، وبالتالي فهي لا تراعي خصوصية الدليل الإلكتروني الذي يتطلب منهجاً تقنياً يضمن سلامة البيانات ومصداقيتها من لحظة اكتشافها حتى تقديمها للمحكمة.
لذلك، من الضروري أن يكون هناك تعاون وثيق بين الخبراء التقنيين ورجال القانون، بحيث يتم توحيد المفاهيم ووضع آليات متكاملة لجمع وتحليل الأدلة الإلكترونية. كما يجب أن تُنشأ مختبرات رقمية متخصصة، وتُدرّب الكوادر الوطنية على تقنيات التحقيق الرقمي الجنائي (Digital Forensics)، بما يواكب المعايير الدولية في هذا المجال.
إن الاعتراف بالدليل الإلكتروني كوسيلة إثبات مشروعة لا ينبغي أن يقتصر على الجانب القانوني فقط، بل يجب أن يستند أيضاً إلى منهج علمي وتقني يضمن نزاهة عملية الإثبات وموثوقية النتائج المستخلصة.
فالتقنية اليوم لم تعد مجرد أداة، بل أصبحت شريكًا أساسيًا في العدالة، ومن ثمّ فإن تطوير التشريعات والإجراءات لمواكبة التطور الرقمي هو ضرورة وطنية وليست ترفاً فكرياً.
كتب : د. أنيس عبدالله شعفل – أستاذ علوم الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات بجامعتي أبين، والألمانية الدولية - عدن
                        
                        
                        
    			
 
 
 
  
  
  
  
  




