قصة امرأة ..

الإرهاب والعنف والتفكك الاجتماعي تلاحق جنديّة فرنسية

المرأة والطفل
قبل 3 سنوات I الأخبار I المرأة والطفل

البدايات المخاتلة تحفل بها الكثير من الأعمال السينمائية، التي تبني دراما متقنة معتمدة على التشويق في أقصى درجاته. ليس من السهل بناء عمل سينمائي متقن الأركان يمكنه شد المشاهد إلى تفاصيله دون إسراف أو تلكؤ، وهو ما نجح فيه فيلم “الحارس”.

مشاهد الحرب على الإرهاب الافتتاحية صارت مثلا وعلامة فارقة وقاسما مشتركا للعديد من الأفلام وفي العديد من الساحات وبالأخص منها تلك الساحات التي شهدت التمدد الإرهابي في البلاد العربية.

وها نحن في فيلم “الحارس” أمام مشهد افتتاحي أعادنا إلى أفلام مثل “الملوك الثلاثة” و”خزانة الألم” و”منطقة خضراء” و”الموصل” و”معركة حديثة” وغيرها من الأفلام.

هنا في إحدى مناطق الصراع في سوريا، وحيث يجري استنطاق امرأة من طرف إحدى وحدات الجيش الفرنسي للوصول إلى زوجها الإرهابي الذي يكون قد استخدم ابنه الصغير انتحاريا يقوم بتفجير نفسه في وسط ذلك المشهد المشحون، لينتهي المشهد على فجيعة وكارثة.

الشخصية المركبة

لم تكن الجندية كلارا (الممثلة من أصل أوكراني أولغا كوريلينكو) إلا الجندية المترجمة التي كانت تتحدّث مع المرأة في المشهد السابق، وبعد الحادث مباشرة يتقرر إعدتها إلى فرنسا وإلى مدينة نيس، لتلحق هناك بدوريات راجلة لمكافحة الإرهاب.

لكن عودة كلارا لم تكن بسلام إذ لم يكن المشهد المتوتر الذي ظهرت فيه إلا امتدادا لخبرات قاسية ومريرة عاشتها وسط الصراع الدامي، ولهذا كان متوقعا أن تصاب بما أصيب به مئات الألوف من الجنود من مختلف الجنسيات وخاصة الأميركان في العراق بمرض متلازمة الصدمة والمشهور بالحروف الأربعة PTSD. وهو مرض كارثي أدى الى انتحار المئات من الجنود الأميركان بسبب مرارة مشاهد وصرخات وفظائع الحرب التي عاشوها وظلت تلاحقهم.

تبدأ كلارا في أخذ الأدوية المهدئة وصولا إلى الحبوب المخدّرة التي تشتريها من باعتها المتخفّين في الشوارع، وهي في أثناء أزمتها وفيما هي تمضي أمسية مع أختها تانيا (الممثلة مارلين ليما) في أحد النوادي الليلية وتلهو، تتعرض الفتاة الشابة إلى عملية اغتصاب وضرب عنيف تفقدها الوعي، لترقد في أحد المستشفيات مشوّهة الوجه ومنقطعة عن العالم الخارجي.

تندفع كلارا محمّلة بوضعها النفسي الذي أثّرت فيه صدمة الحرب بشدة، للتوصّل إلى الجاني أو الجناة الذين فعلوا ما فعلوه بأختها لتكتشف أن الفاعل هو ابن قنصل جورجيا في فرنسا، ويقيمون في فيلا محصّنة ومحاطة بالحرس، وفوق ذلك يتمتّعون بحصانة دبلوماسية.

هنا سوف تعيش كلارا وسط عالمين، كل منهما أخذ من ذاتها مساحة كبيرة، العالم الأول هو ماضيها القريب في ساحة الحرب في سوريا، بكل ما فيه من صدمات وفظائع، والعالم الذي عادت إليه وهو موطنها لتجد أمامها مدمني المخدّرات ومروّجيها والانحلال والاعتداء على النساء الذي كانت ضحيّته شقيقتها.

هذه الشخصية المركبة تظهر أيضا ميولها المثلية ووحدتها وعزلتها التي تفاقم وضعها وهي بسبب ذلك على استعداد للقتل في كل وقت، لاسيما وهي تقوم بالدوريات المعتادة مع ثلّة من جنود مكافحة الإرهاب، ووصولا إلى قرار تجريدها من السلاح بسبب اقتحامها شقّة القنصل ومحاولتها الاعتداء عليه بسبب فعلة ابنه التي ينكرها.

دراما الانتقام

في هذه الدراما الفيلمية نجد أن الشخصية المحبطة والمثقلة بالماضي القريب وصوره القاسية سوف تتحول الى كائن انتقامي لا يقف أمامه أي حاجز، وبذلك ترك المخرج جوليان لوكليرك مساحة كافية للشخصية لكي تعبّر عن نفسها وتعيش يومياتها بتفاصيلها، وهي يوميات تتراوح غالبا ما بين زيارة الأخت الغائبة عن الوعي وبين القيام بتلك الدوريات الروتينية.

من جهة أخرى وكأن خطا سرديّا إضافياً تم تأسيسه منذ لحظة اقتحامها مخزن السلاح وسرقة الأسلحة والذخيرة لكي تقوم بعملية قتل لم تبق أحدا تقريبا في فيلا الدبلوماسي الجورجي، طالت حتى الدبلوماسي نفسه، مدفوعة بغليان شديد من جراء إفاقة شقيقتها وهي محطّمة تماماً ومشوّهة الوجه.

هذا الخط السردي استدعى في المعالجة خليطا من مشاهد الحركة والعنف التي برعت فيهما كلارا في القتال الفردي وإطلاق الرصاص والمعارك بالأيدي ومشاهد الجريمة، لاسيما وأنها كانت تقوم بعملية الانتقام خفية ومشاهد أخرى واقعية تتعلّق بحياتها اليومية كجندية تقوم بواجباتها الروتينية المعتادة.

التميّز في بناء الشخصية رغم أن فيه بعض الإسراف والمبالغة في تهوّر كلارا، إلا أنه قدم فيلما به غزارة في التفاصيل وفي السرد القصصي وعمقا في الجانب الواقعي ابتداء من مشاهد الحرب التي افتتح بها الفيلم، والتي أوهمنا بها المخرج على أننا سوف نمضي الوقت في مشاهد فيلم حربي تقع أحداثه في سوريا.

وبالإضافة إلى كل ما يتعلق بتلك الدراما المتصاعدة فقد رسّخ المخرج قوة الشخصية التي جعلها وكأنها لاعب وحيد، بلا منافس، وهي لوحدها بلا صديق أو صديقة، تصنع قراراتها بنفسها، وبذلك أضيفت لها قدرات البطل المتفوّق الذكي وسريع الحركة وسريع رد الفعل، بما يقرّبنا من نمط أبطال السينما الأميركية من النساء من أمثال سكارليت جوهانسن، وتشارلز ثيرون وهال بيري وجيسيكا ألبا وإليزابيث أولسن وميلا جونوفيتش وغيرهن.

المرأة الجندية التي تعيش أتعس أيام شبابها وترى نفسها وهي تتحطم تحت وطأة العنف الذي لا يفارقها، فلا الماضي يرحمها بصوره القاسية ولا الحاضر يرحمها بوحشية ما يقع من حولها، وكونها جندية لمكافحة الإرهاب وإذا بمهمتها تتعدّى الناس باتجاه ذاتها التي تحتاج إلى المزيد من مد يد العون والمساعدة لتصلح وضعها، قبل أن تصلح وضع مجتمعها أو المجتمع الذي أرسلت له وهو في حالة حرب كارثية.