العقد الاجتماعي الناجح (الدستور) لا يتم إلا بعد تجارب فاشلة، ومدافعة شديدة بين أقطاب المجتمع، ودورات من الحروب والتطاحن.
وهذه الأمور كلها قد مررنا بها في اليمن، فلا نزال نتطاحن منذ ستين عاما، حتى وصلنا إلى المرحلة الأقصى من الصراع ولم نعد نطيق لما بعدها عيشا.
ولنا تجارب كثيرة لابد من استلهام دروسها عند صياغة هذا العقد الاجتماعي، منها:
1- تجربة الهاشميين الزيديين، الذين يرون أحقيتهم بالحكم مع أنهم أقلية، ومنها وقوفهم ضد جمهور الشعب اليمني، بالتحالف مع السعودية أولا، ثم بالتحالف مع إيران.
من النتائج الكارثية لتجربتهم هذه الحرب الأخيرة المدمرة لمقدرات اليمن.
ومن آثارها الخطيرة الشرخ الاجتماعي بين جمهور الشعب اليمني وبين قبيلة بني هاشم العريقة، وهو الأمر الذي يدرك خطورته عقلاء بني هاشم قبل غيرهم.
2- تجربة اليساريين، سواء كانوا قوميين أو ماركسيين، ولكننا نسلط الضوء على الماركسيين لأن لهم تجربة في حكم جنوب اليمن متبناة سوفيتيا لابد من استلهام دروسها.
أثبتت تلك التجربة فشل البروليتاريا الذريع في الحكم، فبعد أن خاضوا صراعا دمويا مع أقطاب المجتمع في جنوب اليمن تطاحنوا فيما بينهم البين مطاحنة شهد بمأساويتها العدو قبل الصديق.
كان من آثار هذه التجربة مأساة يناير 86م، وحرب 94م التي أعقبت وحدة غير عادلة مع شمال اليمن، وحروب عدن وأبين الأخيرة.
ومن آثارها الخطيرة شروخ اجتماعية لم تندمل بعد بين مكونات جنوب اليمن، وعزلة عن التاريخ الإسلامي والجغرافيا العربية.
3- تجربة البراجماتيين، وتمثلهم بصورة واضحة دولة علي عبدالله صالح، التي أرادت أن تلعب بالتوازنات المحلية والإقليمية والدولية لصالح أسرة واحدة، جمّعت حولها المصلحيين الذين يدور همهم حول ذواتهم قبل أن تهمهم مصلحة الوطن.
من آثارها الخطيرة الفساد الذي نخر الدولة اليمنية، وأعقبه ثورة الشباب اليمني سنة 2011م والحرب الحالية التي أكلت الأخضر واليابس.
4- تجربة الإسلاميين، وهي تجربة معقدة لها أبعاد متفاوتة، ويمكن إجمالها بتجربتين:
أ- تجربة حركة الإخوان المسلمين، التي لم تستطع حتى الآن تقديم مشروع واضح للدولة التي تنشدها للمجتمع اليمني، وتاريخ تجربتها يمكن حصره في تجربتين متفاوتتين:
الأولى: تجربتها مع الكيان السياسي في شمال اليمن الذي أسسته السعودية وأمريكا، وقد كانت فيها جماعة دعم وإسناد لهذا النظام. كانت رأس الحربة في المواجهة العسكرية مع الماركسيين السوفيت في المناطق الوسطى، والمواجهة الثقافية مع الإماميين في شمال الشمال، وانتهى دورهم الإسنادي مع انتهاء حرب 1994م.
والثانية: تجربتها في المعارضة السياسية، التي من آثارها إسناد ودعم ثورة الشباب سنة 2011م ثم إسناد ودعم الشرعية الدستورية في الحرب الحالية التي أكلت الأخضر واليابس.
أما آن لهذه التجربة أن تنتقل من دور الدعم والإسناد إلى دور بناء المؤسسات الدستورية، واعتماد فلسفة سياسية تنتج العقد الاجتماعي الذي لا تستبد به جماعة، ولا يسيطر عليه كيان.
ب- تجربة السلفيين، والتي يمكن تلخيصها بأنها تجربة انعزالية، تنعزل عن المجتمع جانبا، ثم تعود لبنائه على الطريقة السلفية الوهابية، وقد اتجهت إلى منحيين:
- المنحى الجهادي الذي استطاع أن يؤسس كيانا في أبين وحضرموت وبعض مناطق البيضاء، ولم يدم طويلا، ومع قصر مدته إلا أنه أودى بحياة الكثير من أبناء اليمن في عمر الزهور.
- والمنحى الدعوي الذي وجد نفسه أخيرا يحمل السلاح، ولا يدري ماذا يريد! * الذي سبق كله كوم، والتدخل الخارجي كوم آخر وهو الآخذ بتلابيب الأمور، ولكنه بدوره صار يرثي لحالنا، ويرسل إشارات إلى المجتمع اليمني بحكومة أطفال بدلا من الكيانات المتصارعة التي لا تشعر بالمسؤولية.
أما آن الأوان لكتابة عقد اجتماعي جديد، يلزم فيه كل مواطن حدّه، ولا يعتدي على الآخرين. إن الدستور الحالي يعد مدخلا مُهمّا لتطوير العقد الاجتماعي الجديد، وقد جاء بعد تجارب مريرة استلهمها من صاغوه وأقروه، وهو مع قوانينه ولوائحه التنفيذية يعد من أفضل الدساتير العربية، ولكنه حبر على ورق، يحتاج تفعيلا أولا، ثم تطويرا يستلهم دروس التجارب السابقة، ويسير باليمن نحو الاستقرار والتنمية المستدامة. اللهم ألهمنا رشدنا.