تشكلت الجمهورية العربية اليمنية بعد انقلاب عسكري ممول من جمهورية مصر العربية التي هي بدورها تكونت إثر انقلاب عسكري على الملكية في مصر، ورفعت شعار تحرير الوطن العربي من الاستعمار والصهيونية.
كان يقود النظام الجمهوري هناك الزعيم جمال عبدالناصر وحواليه مجموعة من الأركان يقال إن ولاءهم لأمريكا ومخابراتها، منهم أنور السادات الذي كان مسؤولا عن الملف اليمني وصعد إلى الحكم بعد موت الزعيم.
ويقال أيضا إن رجال أمريكا الذين كانوا يحيطون بعبدالناصر هم المسؤولون العميقون عن جرائم قمع وتعذيب وإقصاء الإسلاميين وتشريدهم.
ويقال أيضا إن رجال أمريكا في مصر هم الذين ورطوا الجمهورية المصرية الوليدة في اليمن في سياق خطة طويلة لإفشالها توجت بنكبة حزيران سنة 1967م.
وإنما نذكر هذا في هذا المقال لأن له انعكاسا مباشرا على النظام الجمهوري في اليمن، لأسباب أهمها ثلاثة:
الأول: أن رواد النضال لإصلاح الوضع في اليمن كانوا إسلاميين متأثرين بحركة الإخوان المسلمين أو منتمين إليها، ابتداء بالفضيل الورتلاني ومرورا بالزبيري وثلة من القادة، ولهذا فإنهم كانوا رافضين لتكرار نسخة من انقلاب تنظيم الضباط الأحرار في مصر الذي كان الإسلاميون شركاء فيه ثم سامهم سوء العذاب. وبناء عليه فقد كانت رؤية الإسلاميين في اليمن إصلاحية تدعو إلى الملكية الدستورية ولا تتبنى النظام الجمهوري.
الثاني: أن السعودية كانت لاعبا أساسيا في اليمن، وكانت مستهدفة من الحركة القومية واليسارية، وتتوجس من هذا الانقلاب العسكري والنظام الجمهوري خيفة، وقد كان من ضمن مطالبها بعد التصالح مع مصر تغيير اسم الجمهورية العربية اليمنية إلى دولة اليمن الإسلامية. و لا ننس أن السعودية كانت ملجأ للمشردين من الإسلاميين بسبب القوميين الذين سيطروا على مصر وسوريا والعراق.
الثالث: أن حركة القوميين العرب بمفهومها الواسع كانت تعاني من خلافات كبيرة، أبرزها الخلاف بين القوميين والشيوعيين، ثم الخلاف بين القوميين أنفسهم بين ناصريين وبعثيين، وكان البعثيون والشيوعيون متوجسين خيفة من الناصريين ولا يريدون لهم النجاح والسيطرة على النظام الجمهوري الوليد في اليمن.
بعد صراع وتدافع دام حوالي خمس عشرة سنة بين القوى المشار إليها أعلاه تحول هذا الانقلاب إلى ثورة ثبتت النظام الجمهوري الذي لم يستقر حقيقة إلا سنة 1978م على إشكاليات موجودة فيه.
قبل الحديث عن إشكاليات النظام الجمهوري في الشطر الشمالي من اليمن يحسن الحديث عن جذور ومبررات النظام الجمهوري في هذا البلد.
كان الشطر الشمالي يُحكم من المملكة المتوكلية الهاشمية، وهي نظام فاشل بكل ما تعنيه كلمة الفشل.
كان نظاما كهنوتيا مليئا بالتناقضات لم يجد لنفسه مخرجا منها غير عزل اليمن عن العصر وتكريس التخلف والفقر والجهل والمرض.
تجدد هذا النظام بعد أن قادت الزيدية الهاشمية حركة معارضة مسلحة ضد الدولة العثمانية التي عادت إلى اليمن بسبب استعمار الإنجليز لعدن، وكانت عقيدتها القتالية ضد الدولة العثمانية هي الجهاد من أجل الوصية الإلهية في الحكم لأبناء علي بن أبي طالب من زوجته فاطمة الزهراء التي يزعمون أن العثمانيين كفروا بها، ثم اغتصبوا حق آل البيت.
كانت همدان وخولان وبقية القبائل التي تعيش في الهضبة والتي تعرضت لعملية تجهيل مريع على مدى ألف سنة كانت تقاتل تحت هذه العقيدة، ثم تفاجؤوا سنة 1911م أن الإمام يحيى وقّع اتفاقية مع العثمانيين اعترف بموجبها بسيادتهم على العالم الإسلامي، ورضاه بأن يكون أحد ولاتهم على الطائفة الزيدية في هضبة اليمن.
الزعيم القبلي ناصر بن مبخوت الأحمر الذي كان من أشرس المقاتلين مع الإمامة صار رمزا من رموز هذه الصدمة، وهو الأمر الذي قاده مع ثلة من قبائل حاشد إلى الكفر بالوصية الإلهية، ثم معارضته لاستحقاق آل البيت للحكم، وبعد التضييق عليه من الإمام لجأ إلى آل سعود والحركة السنية الوهابية، ومن نسله كان حسين بن ناصر الأحمر وابنه حميد، اللذان قتلتهما الإمامة، وعبدالله الذي صار أحد أعمدة الجمهورية العربية اليمنية.
الإشكالية الثانية التي واجهت الإمام هي الجَنَد وتهامة ومأرب، فهذه المناطق لم تكن زيدية، وكانت على مدى التاريخ عمقا للدولة اليمنية السنية، فقد كانت عمق الدولة الرسولية، ثم عمق الدولة الطاهرية، ثم عمق الدولة العثمانية.
وعندما هُزمت تركيا في الحرب العالمية الأولى بقي علي سعيد باشا قائد القوات العثمانية في اليمن في حيرة من أمره في شأن هذه المناطق بين الإنجليز الكفار في عدن وبين الإمام في صنعاء، فقرر تسهيل الأمور للإمام المسلم لمد نفوذه في مناطق اليمن السنية التي لا تخضع لمعاهدات الحماية البريطانية.
هذه المناطق لم تكن تحب الإمام، وليست مقتنعة بحكمه، وتشعر بالامتعاض الشديد من العقيدة السياسية التي تكرس السلطة والثروة بيد سلالة، ولهذا فإن هذه المناطق تشكل عمق النظام الجمهوري، ومنها انبثقت الأحزاب السياسية بمختلف توجهاتها الإسلامية والقومية والشيوعية.
نعود إلى الحديث عن الجمهورية العربية اليمنية
شكلت نكبة حزيران 1967م مرحلة مفصلية من تاريخ الجمهورية، فبعد هذه النكبة رفعت مصر الناصرية يدها من اليمن، وبدأ مخاض سياسي طويل توج بنظام 1978م.
برأي كاتب المقال أن نموذج 1978م كان نموذجا ناجحا إلى حد ما، اشترك في صياغته العقلية الإنجلوسكسونية التوافقية التي لها شبه كبير بعقلية الحكمة اليمانية.
العقلية الإنجلوسكسونية التي هي عمق بريطانيا وأمريكا لم تقدم هذا النموذج لليمن الشمالي محبة فيه، وإنما منافسة للنظام الجمهوري الشعبي الاشتراكي الماركسي في جنوب اليمن، الذي كان نظاما راديكاليا ثوريا متطرفا عنيفا يستهدف الجزيرة العربية في سياق الحرب العالمية الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي.
كانت الجمهورية العربية اليمنية بعد 1978م عبارة عن توافق بين ثلاث قوى:
عالمية لها النفوذ الأقوى، وهي أمريكا. وإقليمية لها النفوذ الأوسط، وهي السعودية.
ومحلية لها النفوذ الأضعف، وهي مجموع التوجهات السياسية اليمنية التي توج اتفاقها بتأسيس المؤتمر الشعبي العام سنة 1982م.
تكمن الإشكالية في هذا النظام الجمهوري من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن النظام الجمهوري بهذه الصيغة، وإن كان قد قدم خدمات كبيرة للجمهور إلا أنه لا يعبر حقيقة عن هذا الجمهور، فلم تكن الجمهورية ذات سيادة كاملة، ولم يكن الجمهور هو الذي يقرر ويملك الجمهورية، وإنما كان هو الحلقة الأضعف، ولكنه كان يتلقى خدمات جديدة ارتقت بمستواه المعيشي.
والناحية الثانية: أن النظام الجمهوري الشعبي لا يمكن أن ينجح ما لم توجد نواة صلبة تحرسه، فالناس بطبعهم كإبل مائة لا تكاد تجد فيهم راحلة.
وفي شمال اليمن كانت النواة الصلبة المحلية التي تحرس الجمهورية العربية اليمنية هي قبلية حاشد وحركة الإخوان المسلمين، وهنا تكمن إشكالية.
أما قبيلة حاشد فهي قبيلة، والقبيلة في النظام الجمهوري تشكل تناقضا حينما تأخذ نفوذا أكبر من حجمها السكاني على حساب الجمهور الذين هم الغالبية.
وأما حركة الإخوان المسلمين فبالرغم من أنها كانت رُمّانة الميزان بين الكتلتين اليمنيتين فيما يعرف باليمن الأعلى واليمن الأسفل، ونجحت في إيجاد صيغة فقهية توافقية فريدة من نوعها، إلا أن حركة الإخوان المسلمين عموما كانت ولا زالت لا تمتلك فكرا سياسيا أصيلا يصوغ النظام الجمهوري ببصمة إسلامية لها شخصيتها المستقلة.
والواقع أن هذه إشكالية عامة تواجه رواد ومفكري الحركة الإسلامية المعاصرة ليس في اليمن فحسب وإنما في كل مكان.
صحيح أن النظام الجمهوري في اليمن الذي كانت الحركة الإسلامية في عمقه قد أكسب هذه الحركة نضجا سياسيا تميزت به عن بقية الحركات الإسلامية في العالم العربي إلا أنها بحاجة إلى أن تقدم فكرا سياسيا دستوريا أصيلا يتجاوز قرون الاستبداد الطويلة التي جثمت على الأمة الإسلامية منذ سقوط الخلافة الراشدة، وتطمئن الأمة أنها لا تنوي تجديد الاستبداد والقمع.
ويتجاوز أيضا التقليد الأعمى للنماذج الغربية، وهو التقليد الذي كان أحد أبرز فشل نماذج القوميين العرب.
للحديث بقية عن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والجمهورية اليمنية، واستشراف المستقبل...