مفارقة كبيرة أن أكتب عن العلاقة السعودية الإماراتية قبيل ساعات من حلول ذكرى تحرير عدن في يوليو 2015.
لذا، فليس من المفترض لكاتب عايش التفاصيل الصغيرة لهذا الحدث وما قبله وبعده، أن يكون في خانة الصامتين مع كل صدى لحديث فارغ عن خلاف سعودي-إماراتي، أخرج صيادين ليرموا بشباكهم فيما يُفترض أنها مياه معتكرة يمكن الاصطياد فيها.
لا ترتكز العلاقات السعودية-الإماراتية على القواعد التقليدية، التي تشكل التفاهمات بين البلدان العربية بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور الدول الوطنية.. فكل الاعتبارات تأتي من الجوار والنسب القبلي والعائلي وكل ما ينسج لوصف العلاقات العربية-العربية في الديباجات والمقدمات لتعريف علاقات الدول ببعضها، فيما لا يزال السياسيون في السعودية والإمارات يمتلكون وحدهم التعريفات الممكنة لعلاقة بلدين اختارهما القدر في لحظة فارقة للقيام بمهمة التاريخ.
الاختبارات الصعبة هي التي تحدد المصائر وترسم ملامح المستقبل، هذا ما يمكن أن نخضعه للحالة السعودية الإماراتية بامتدادها التاريخي، فالمنعطفات السياسية هي التي شكلت العلاقة، فمنذ ولدت الثورة الإيرانية وتأسس على خلفيتها كيان مجلس التعاون الخليجي، أظهرت القيادات السياسية في البلدين قناعة مشتركة بضرورة مواجهة الاختبارات مهما كانت صعبة وحادة، بل ودافعة لتقديم تنازلات محددة في توقيتات محددة.
حرب تحرير الكويت 1991 كانت محطة يمكن دائماً الاستناد إليها لقراءة مفهوم الأمن القومي العربي، بحسب رؤية المؤسس المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيب الله ثراه- ذلك الاختبار الوجودي يجسد تبلور الرؤية الإماراتية وعمقها في اعتبار السعودية المركز العميق للخليج العربي، وما بعد هذه الرؤية مجرد تفاصيل تنامت بطبيعة الحركة والتطور.
لا أحد في العالم يعرف أهمية التوازن السياسي والأمني كما يعرفه قاطنو هذه المنطقة الخليجية، التي يستيقظ فيها السياسي وينام على حسابات دقيقة يجب عليه التعامل معها، ومع ظرفيات الشرق الأوسط ومفاجآته وتشنجاته، السياسيون يعرفون أن التوازنات معقدة وتتطلب عمليات أكثر تعقيداً للمحافظة على الأمن والاستقرار، لتوفير بيئة اقتصادية جاذبة في منطقة جغرافية ملتهبة.
الإماراتيون، منذ تسعينيات القرن العشرين المنصرم، أطلقوا تجربتهم الذاتية الاقتصادية، التي شكلتها “دبي” وخطط لها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، كامتداد لتجربة شكلت فيها السعودية الضامن للأمن القومي، ولعبت ضمن توازنات دقيقة أدوارا مهمة لتجنيب منطقة الخليج العربي اهتزازات حادة على غرار غزو العراق للكويت، إضافة إلى مواجهة تصاعد خطر تنظيمات إرهابية، كـ”القاعدة” في جزيرة العرب.
السياسيون السعوديون والإماراتيون كانوا أكثر المتنبهين لمآلات ما يتم تخطيطه عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، وتقديم مشروع “الشرق الأوسط الجديد” كان مؤشرا تنبهت له السعودية والإمارات، وهو ما يفسر تعاملهما الصارم منذ انطلقت فوضى ما يسمى “الربيع العربي”، ولم يكن موقف البلدين من أحداث البحرين سوى تأكيد على استيعاب مهددات الأمن القومي العربي، فتكفلت البلدان بالمهمة التاريخية الصعبة.
كذلك، فإن ثورة 30 يونيو 2013 المصرية لم تكن لتنتظر التردد في الاستجابة لها، وهذا ما فعله العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- وسانده في ذلك ولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، فكان الرجلان بمثابة “رافعة سياسية” للدولة المصرية من خطر انجرافها في مشروع الخرافة الإخواني.
المهمة التاريخية كانت تحدياً أعقبته تحديات أخرى، فلن يكون هناك مصر وقناة السويس إذا كانت عدن و”باب المندب” في قبضة إيران، وهو ما تحتم القيام به بتحرير عدن وتأمين بوابة العرب الجنوبية.
الدم السعودي والإماراتي في تراب عدن وشبوة ومأرب وحضرموت، يجسد فعلياً ذلك الوقت الذي تنبهت فيه قيادات البلدين لهكذا استحقاقات تطلبت تقديم الدم لتخليص المنطقة من خطر كان ولا يزال حائماً على الخليج العربي.
سقوط مشروعات الإسلام السياسي على الحوائط العالية للسعودية والإمارات لم يكن من فراغ، بل كان الافتراضية لأكبر حركة إصلاحية يعرفها العالم الإسلامي في القرن الأخير.
محمد بن زايد ومحمد بن سلمان، يقدمان رؤية إصلاحية عميقة في الفكر الإسلامي، ويقدمان معاً مشروعاً تنويرياً يرتكز على المعرفة والتجديد وتدعيم أركان الدول الوطنية، ما سيعني أن نهضة ستغير شكل الشرق الأوسط بتحويله إلى مركز عالمي للمعرفة والاقتصاد.
هذه المشتركات لن يعاكسها غير الذين وظفوا تنظيمات الإسلام السياسي لتفتيت الدول العربية من داخلها.
الدم والنفط لا يشكلان وحدهما العلاقة بين السعودية والإمارات، بل أشياء أخرى هي التي تجسد هذه العلاقة وتبني الحوائط العالية الصلبة التي تحطمت عليها رؤوس اصطدمت بها، وستصطدم بها طويلا، فواحدية المشروع الجامع بين رؤية المحمدين تظل رهان شعوب تعرف ألا أمن واستقرار دون أن يستمر المشروع العقلاني والتنويري في المضي نحو عوالمه، فالمستقبل مرتهن بالعقل والعقلاء الأقوياء القادرين على تعريف المصطلحات وتفكيك طلاسم المشعوذين الحاسدين الكائدين.