تشهد محافظة حضرموت في شرق اليمن حراكاً سياساً وقبلياً، على وقع احتجاجات مطلبية وأزمات متعددة يعانيها سكان المحافظة الغنية بالنفط، في مقدمتها انقطاع التيار الكهربائي عقب توقف شركة "بترومسيلة" النفطية عن تزويد محطات توليد الطاقة بالوقود، نتيجة احتجاجات بدأت مطلع آب (أغسطس) الجاري، تطالب بمنع تصدير النفط، وتخفيض أسعار الديزل لمحطات الكهرباء، في ظل مخاوف من تدحرج كرة النار وتوسّع الاحتجاجات التي يقف خلفها حلف "قبائل حضرموت" ومعه "مؤتمر حضرموت الجامع"، وكيانات أخرى.
تصرّ هذه الكيانات على تغيير واقع المحافظة، وسط اتهامات لأطراف محلية وخارجية بتغذية الأزمة خدمة لمشاريع تمزيقية أكبر، تستتر خلف مطالب حقوقية، خصوصاً أن منظمي الاحتجاجات يرفضون الإجراءات التي اتخذها رئيس مجلس القيادة اليمني لتطويق الأزمة.
أزمة عميقة
يقول الكاتب والمحلل السياسي سعيد بكران إن احتجاجات حضرموت "انعكاس واضح لأزمة عميقة وصامتة تضرب داخل مجلس القيادة اليمني، وتتمثل في أزمة الصلاحيات".
ويضيف لـ"النهار العربي": "كان الهدف الأساسي من نقل السلطة من الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي هو خلق حالة من التوافق في صناعة القرار الرئاسي، بعد سنوات من استئثار فصيل سياسي محدد بقرارات الرئاسة اليمنية، لكن الواقع السياسي المعقّد بين أطراف مجلس القيادة أفصح بأن أزمة التوافق الرئاسي والإدارة الجماعية لا تزال قائمة".
وأوضح بكران أن حضرموت كانت العنوان الأبرز "لسعي رئيس مجلس القيادة اليمني رشاد العليمي الحثيث منذ الأيام الأولى لقيام المجلس للاستئثار بطريقة إدارتها، والانفراد بتسيير شؤونها، بما في ذلك محاولات رئيس مجلس القيادة إعادة صياغة التكوينات السياسية في حضرموت"، مضيفاً أن إنشاء مجلس حضرموت الوطني في الرياض في 20 حزيران (يونيو) 2023 في العاصمة السعودية هو "إحدى العلامات البارزة لجهود العليمي ورغبته في الاستحواذ على حضرموت، وعزلها عن المشروع الجنوبي والممثلين الجنوبيين في مجلس القيادة الرئاسي، وحتى تهميش ممثل حضرموت في المجلس اللواء فرج سالمين البحسني، والعمل من دون التنسيق معه".
وبحسبه، تلك هي الخلفية السياسية للأزمة التي تشهدها حضرموت، ويضاف إليها إخفاق إداري غير مسبوق تعزوه السلطات إلى توقف صادرات النفط من حضرموت، ما ينعكس على كلّ جوانب الحياة داخل المحافظة انعكاساً سلبياً غير مسبوق.
تراكمات واحتقان
يقول الناشط السياسي الحضرمي رشاد خميس الحمد لـ"النهار العربي" إن ما تشهده حضرموت من حراك مجتمعي "ناتج من مطالب مشروعة لا يمكن تجاوزها، فحضرموت عانت ولا تزال تعاني جراء الإقصاء والتهميش الحكومي، مع أنها المحافظة اليمنية الوحيدة التي تدفع 70% من إيراداتها للدولة اليمنية، سواء من ميناء الوديعة البري أم من الموانئ البحرية كميناءي الضبة والمكلا، وتعد الداعم الأساسي للخزينة العامة للدولة منذ توقف تصدير النفط في نهاية عام 2022، لكنها تفتقر إلى التنمية والمشاريع الخدمية، في ظل اتساع رقعة الفقر وارتفاع أسعار السلع الأساسية وانهيار العملة المحلية، عجز الكثير من أبناء المحافظة النفطية عن توفير احتياجات أسرهم ومن يعولون، نتيجة الفساد وحرمان المحافظة من حصتها في الثروة والسلطة".
وأدت هذه التراكمات إلى احتقان شعبي تطور اليوم إلى حركة احتجاجية، يتبناها حلف قبائل حضرموت، "وهو ليس على وفاق مع السلطة المحلية لرفضه المقترحات والإجراءات التي اتخذها محافظ المحافظة مبخوت بن ماضي، ويرى أنها إجراءات غير كافية ووعود لن تُنفذ"، بحسب خميس الذي يؤكد أن الاحتجاجات "حضرمية خالصة"، وإن لم تشارك فيها كل المكونات المجتمعية، "لكنّ هناك إجماعاً على مشروعية هذه المطالب وضرورة تلبيتها".
تفاوض مباشر
ويرى خميس أن اندلاع الاحتجاجات تزامناً مع زيارة رئيس مجلس القيادة اليمني لحضرموت في 27 تموز (يوليو) يعدُ قصوراً من مجلس القيادة اليمني الذي أغفل ملفات التنمية في المحافظة لسنوات، "وكان يجب أن يسبق الزيارة إصدار عدد من القرارات المهمة التي تنصف حضرموت بدلاً من إطلاق وعود لا تتحقق"، منتقداً قرار الرئاسي اليمني تشكيل لجنة لتلبية مطالب أبناء حضرموت، "فذلك زاد الأزمة تعقيداً، لأن الاستجابة لمطالب المحتجين تبدأ بالتفاوض المباشر معهم على حقوق حضرموت، ولو بالحد الذي يسمح بالتوصل إلى تفاهمات مقبولة".
وبحسبه، لا يزال الحضارم يعبّرون عن مطالبهم بطرق ناعمة، على الرغم من بلوغ الأزمة ذروتها، "أما التهميش فلن يزيد الأزمة إلا تعقيداً، وربما تتطور الاحتجاجات فتضيّق الخيارات أمام المجلس الرئاسي".
وكانت "بترومسيلة" قد أوقفت عمل منشأتها لتقطير الديزل بعد الاحتجاجات، متحججة ما سمّته "الظروف القاهرة التي فرضتها الأوضاع الراهنة"، مصدرة بياناً تتهم فيه حلف قبائل حضرموت بأنه يسعى إلى تحقيق مكاسب شعبية على حساب الشركة النفطية الحكومية، "وكان الحلف قد نصب نقاطاً مسلحة في مناطق الإنتاج النفطي خلال الأسابيع الماضية، للضغط على الحكومة لتلبية مطالبه، ومنها تخفيض سعر الديزل لمحطات الطاقة من 1400 ريال يمني (70 سنتاً) إلى 700 ريال (35 سنتاً) مقابل الليتر الواحد.
استغلال الاحتجاجات
إلى ذلك، يقول مصدر حكومي في السلطة المحلية بمحافظة حضرموت، طلب عدم ذكر اسمه، إن الاحتجاجات نتيجة طبيعية لتوقف تصدير النفط بعد ضرب ميليشيات "الحوثي" ميناء الضبة النفطي، وحالة الهيجان الشعبي التي تعمل الكثير من الجهات على تأجيجها واستغلالها لتخدم أجندتها في المحافظة.
ويضيف لـ"النهار العربي" أن تحركات "حلف قبائل حضرموت" تحت عنوان "حقوق حضرموت" ما هو إلا ذريعة لضرب تماسك النسيج الحضرمي في مقتل، متسائلاً: "لماذا لم يرحب الحلف بدعوة بن ماضي لتوحد الجميع نحو تحقيق مطالب حضرموت والتي تطالب بها السلطة المحلية على كل الأصعدة، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بالجوانب الخدمية والتمثيل العادل في المناصب السيادية ومنح حضرموت نوعاً من الاستقلالية الإدارية والمزيد من الصلاحيات المالية، وهو الموقف الذي جسّده المكتب التنفيذي للسلطة المحلية بإيقاف إيرادات المحافظة عن المركز حتى تحقيق مطالب المحافظة؟".
ويتابع المسؤول الحكومي: "لم نرَ أي تأييد من حلف حضرموت والمكونات التي معه لقرار السلطة المحلية إيقاف الإيرادات عن المركز حتى تحقيق المطالب، لكنهم يصوبون اليوم سهامهم نحو إخوانهم الحضارم في السلطة المحلية والأجهزة الأمنية والعسكرية والعمل على إقلاق السكينة العامة بقطع مادة الديزل التي تأتي من ’بترومسيلة‘ إلى مدن الساحل لتموين قطاعات الكهرباء والمياه والصحة وغيرها، ما تسبب بالأزمة، وولد حالاً من الاستياء الشعبي نتيجة انهيار منظومة الكهرباء".
ويطالب المسؤول الحكومي مجلس القيادة اليمني بدعم السلطات المحلية والأجهزة المعنية، ومنح السلطات المحلية صلاحيات أوسع، وزيادة نسبة المحافظة من حصة النفط بقرار رئاسي، وإشراك حضرموت في المفاوضات المقبلة، وتمكين أبناء حضرموت من الملفين الأمني والعسكري بمديريات الوادي والصحراء.
اعتراض علني
وكان العليمي قد وجّه بتشكيل لجنة رئاسية للنظر في مطالب أبناء المحافظة ورفع المقترحات لحلّها وفقاً للقانون، بناءً على التزامات وتفاهمات معلنة مع السلطة المحلية والمكونات السياسية في المحافظة. وضمّت اللجنة 9 شخصيات حضرمية شملت وزراء وشخصيات قبلية وعسكرية، ووجّه الرئيس اليمني بتمكين اللجنة من القيام بمهماتها كاملة، لما فيه المصلحة العامة لأبناء المحافظة.
لكن سرعان ما قوبل هذا التوجيه باعتراض علني من عضو مجلس القيادة اليمني اللواء فرج سالمين البحسني، الذي يؤكد أن "لا جدوى من تشكيل لجان لحلّ مشكلات حضرموت بهذا الشكل".
ويعتبر البحسني الذي عمل محافظاً لحضرموت وقائداً للمنطقة العسكرية الثانية بالمحافظة قبل أن يُعيّن عضواً في مجلس القيادة الرئاسي، أن تشكيل مثل هذا اللجان يُعد تمييعاً لقضايا المحافظة وضياعاً للوقت وفشلاً في مواجهتها بجدية، لافتاً إلى أن الحلّ يكمن في اتخاذ قرارات مباشرة لتلبية مطالب حضرموت أو الدعوة لاجتماع طارئ لأعضاء مجلس القيادة الرئاسي لمناقشة الأزمة والوقوف أمامها بجدية وحزم، "على أن يصدر عن الاجتماع قرارات تحسم ما يجري في المحافظة، وبغير ذلك، لن يُجدي الأمر نفعاً".
اعتذار وحوار وتوافق
من ناحيته، طالب الشيخ خالد محسن العامري، الأمين العام لحلف قبائل حضرموت، اللجنة التي شكلها العليمي بأن تعتذر عن أداء المهمة الموكلة إليها.
وقال العامري في كلمة أمام جمع من أنصار الحلف: "للجنة التي تشكلت من أبناء حضرموت أقول كلمتين: أنتم جزء من هذا العمل الكبير الذي قام أهلكم فيه، وواجبكم الاعتذار للعليمي في أسرع وقت، أو سيلعنكم التاريخ في يومٍ من الأيام".
ويؤكد عامر سعيد العامري، وكيل محافظة حضرموت لشؤون مديريات الوادي والصحراء، حاجة حضرموت "اليوم أكثر من أي وقت مضى للحوار والتوافق نحو رؤية جامعة تحقق مصالح أبناء المحافظة مستقبلاً، في ظل التجاذبات الحادة التي تعصف بالوطن"، مضيفاً أن حضرموت مركز الحل النهائي للسلام في اليمن، "لما تمثله من ثقل وازن تاريخياً ولما لها من موقع جيوسياسي له امتداد وتأثير على المستويين العربي والإقليمي".
ويلفت العامري إلى أن السلطة المحلية بمحافظة حضرموت تدعم كل فرص الحوار واللقاءات المستمرة للوصول إلى توافق بين أبناء حضرموت، "فلا حلّ إلا بالحوار".
نريد حقوقنا المشروعة
أما عمر بامساعد، عضو مؤتمر حضرموت الجامع، فيقول لـ"النهار العربي" إن أبرز مطالب الاحتجاجات في حضرموت "توسيع صلاحيات الإدارة المحلية، وإشراك هيئات المجتمع وعلى رأسها حلف قبائل حضرموت في إدارة محافظتهم وفي التسوية السياسية الشاملة في اليمن"، مؤكداً أن التصعيد مستمر "حتى تنتزع حضرموت حقوقها المشروعة، وعلى رأسها تمثيل حقيقي في هيئات ومؤسسات الدولة اليمنية، وفي الوفد التفاوضي للتسوية السياسية الشاملة، وتمكين أبنائها من إدارة محافظتهم، مالياً وإدارياً وأمنياً".
ويذكّر بامساعد بأن المهم الآن هو توسيع صلاحيات إدارة المحافظة، ومنح القوى المجتمعية نسبة تمثيل أكبر في المناصب الحكومية، "وعلى رأسها حلف قبائل حضرموت وتمكينهم من إدارة محافظتهم بأنفسهم، ونزع كل أسباب التوتر، وإسقاط الذرائع التي فجرت هذه الاحتجاجات".
لكن تلبية ذلك كله دفعة واحدة ربما يصطدم بالتزامات أخرى كبيرة، تواجهها الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، على مختلف الصعد، السياسية والاقتصادية والعسكرية، في ظل توقف تصدير النفط وانهيار العملة المحلية وتعثر مسار التسوية السياسية.