كان الرئيس محمد مرسي بذرة أولى لصندوق انتخاب ظل طوال ستة عقود عاقرًا عن إنجاب وجوه جديدة ، فجل الصناديق العربية لم تأت بجديد يستحق الاحتفاء به ، أعادت اسماء ووجوه معتادة ، وبدلا من ان تتاح لمرسي فرصة الحكم للفترة المحددة له ، تحالفت عليه القوى التقدمية والليبرالية والرجعية معًا .
أسقطت اول رئيس منتخب شعبيًا وديمقراطيًا بالمال والإعلام والقوة وأدوات الدولة العميقة ، حاصرته ، ضغطت على عنقه ، كتمت نفسه ، لم تمهله لحين انقضاء مدته ، اسقطته بالضربة القاضية .
ومن المفارقات المحزنة أن أول رئيس جاءت به الثورة إلى سدة الرئاسة وبانتخابات نزيهة وشفافة يكون مآله السجن .
وفي الزنزانة التي غادرها سلفه مبارك إلى منتجع النقاهة مات مرسي غيضًا وجفوة ونذالة ، حد مواراة جثمانه خفية دونما إجلال أو احترام ، بينما من اسقطته الثورة مات وشيع بمراسيم توحي للمتابع قدرة نظامه على استنساخ ذاته وبكفاءة مذهلة .
ويا ليت ان حركة ٣٠ يونيو حفظت للثائرين حقهم في اختيار الحاكم ، من خلال إنتخابات حُرّة تنافسية نزيهة ، أو أنها احسنت البديل ! بل ذهبت طوعًا ورغبة او كرهًا في الأوضاع السائدة ، أو إنتقامًا من قادة المرحلة لتنصيب ديكتاتور جديد .
لست هنا بمقام من يبرر للإخوان اخفاقهم في إدارة المرحلة ، أو يؤيد القوى المناهضة نجاحها في الاطاحة بالرئيس المنتخب ، لكنني سابقى داعمًا ومؤيدًا لأي فئة أو فصيل يأتي من إرادة شعبية حُرة ونزيهة .
لا أبالي بتلك الاصوات القائلة بأن مصر أكبر وأعظم من يحكمها حزب يميني ذا مرجعية دينية ، فالمهم ليس بالاسماء ولا التوجهات السياسية أو الخلفيات العقائدية ، وإنما المهم ممارسة وتجسيد الديمقراطية ووسائلها المدنية السلمية .
نعم ، لا خوف من اليمين أو اليسار ، فكلاهما محكومان بإنجازهما وبمقدار الرضاء الشعبي . لنتأمل جيدا الى افرازات صناديق الاقتراع في أوروبا ، أو أمريكا ، او اسيا ، أو استراليا .
أحزاب من اليسار أو اليمين فازت وخسرت الإنتخابات ، فما من كيان سياسي يبقى في السلطة أو المعارضة إلى الأبد ، فالمهم وجود ديمقراطية راسخة بمؤسساتها النظامية ، وبنضج التجربة ، وبنزاهة وحرية الممارسة .
ومع بروز احزابًا وقادة بتوجهات وخلفيات دينية وقومية إلَّا أن أحدًا خامره الشك او الفزع على الديمقراطية من صعود التوراتيين في إسرائيل ، أو الإنجليين في أمريكا ، او القوميين في السويد أو فرنسا أو المانيا .
فهذه نتائج متوقعة وطبيعية لمزاج شعبي ، فجميعهم ذاهبون وزائلون ، فلن يبق غير أثرهم ، ولن يبق غير الوسيلة والإرادة الحُرَّة التي حملتهم إلى السلطة .
ما أخشاه على ثورة السوريين هو تكرار سيناريو ثورة مصر أو اليمن أو ليبيا أو السودان . وبما أن مصر كان يعول على ثورتها كثيرا ؛ فإن ما حدث لها تاليًا كان كارثة وبكل المقاييس الثورية والديمقراطية والسياسية .
فكيف يأتى بجنرال من ثكنات الجيش وذو خلفية عسكرية مناهضة لكل ما هو مدني وديمقراطي ومن ثم يكون ربانا للثورة والتغيير ؟ .
ومن لم يفهم أو يستوعب من إجهاض للثورة المصرية ، أشير إليه بمتابعة الإعلام المصري المرئي ، كي يدرك سوءة الإنقلاب.
كانت اغلب القنوات الخاصة قادحة وساخرة من الرئيس مرسي ، دونما تسجل جريمة انتهاك واحدة بحق إعلامي معارض ، أو تكون هناك حالة اعتقال أو سجن . وعندما حكم الجنرال لا توجد قناة واحدة مغردة خارج سرب التطبيل والتمجيد - وايضا - التخوين .
الثناء والإشادة بالرئيس المنقذ والمعجزة ، بينما التخوين من نصيب من يشكك أو ينقد أو يعارض ، فلم تعد هناك قناة مصرية يمكنها المساس برأس النظام .
فكل القنوات المعارضة صارت في تركيا أو استراليا او قطر ، أو كندا ، ووصل بالنظام إلى ملاحقة الناشطين المناهضين في منصات التواصل الاجتماعي.
الثائر على نظام استبدادي انحيازه لا يكون لنظام مستبد ، والعكس صحيح ، فلا يمكن لنظام مستبد دعم ثورة غايتها الحرية والعدالة والديمقراطية.
ولكي نفهم ما حدث من انقلاب على الثورة المصرية ، يتوجب النظر والممايزة بين موقف أول رئيس منتخب شعبيًا حيال أحداث غزة أو ثورة سوريا ، وكيف أن الرئيس مرسي لم يتوان لحظة عن إغاثة غزة ، بما استطاع ، وبمناصرة الشعب السوري وإعلان مقاطعة مصر الجديدة لا سوأ نظام استبدادي قمعي .
وانظروا كيف تعاطى الرئيس السيسي وإعلامه ناحية مأساة غزة ، فعلى فظائعها التي استفزت شعوب العالم وحكوماته ، فلم نر غير الصمت والبذاءة والتخادم الذي أعده كثير من الأحرار المصريين مهينا لهم ولشعبهم الذي عُرف عنه تاريخيا بمد يد العون والمساعدة لاشقائه وفي احلك الظروف .
وبخصوص ثورة الشعب السوري ، وقف النظام المصري وإعلامه وحتى اللحظة مع النظام السوري العائلي الطائفي الموالي لإيران ، فهل هنالك ما هو اسوأ من نصرة ديكتاتور وخذلان شعب شقيق عانى القتل والتشريد والمنافي ؟! .
يا سادة القوم ، لا تكرروا أخطاء الثورات في مصر واليمن وليبيا والسودان وتونس ، فثورة الشعب السوري ينبغي دعمها وبكل السبل كي تنجح وتؤسس لدولة مدنية ديمقراطية .
وعلى الذين شنَّعوا بالثائرين السوريين معرفة أن سوريا جمهورية وليست مملكة أو إمارة حتى يورثها الوالد لنجله . كما ولم يكن حافظ الأسد أو وريثه جمهوريا أو قوميا أو سوريا لكل السوريين ، وإنما حاكمان مستبدان اخضعا شعبا لفترة نصف قرن ويزيد بالجبروت والترهيب والقتل والسجن .
أحذروا الثورة المضادة المطيحة بثورة يناير المصرية ، فلقد اجهضت مكاسب الثورة ، وتم إعادة المحروسة بالله إلى حكم العسكر .
حدث ذلك للأسف ، بمساعدة وتمكين من قبل القوميين والتقدميين والليبراليين والثائرين السذج الذين أعادوا مصر إلى بيت الطاعة والجبروت .
والنتيجة الان أن الجنرال السيسي لن يغادر كرسي الحكم بانتخابات حُرة ونزيهة ، سيبقى رئيسًا وسيبقى صندوق الاقتراع مجرد حيلة وخديعة .
المأساة ليست بالثورات وانما بالثائرين الذين سلموا زمام ثوراتهم لجنرالات وبانقلابات أطلقوا عليه مسمى ثورات على الثورات .
وبعد عودة الانظمة من بوابة الثورة الكبير ، تحتاج المجتمعات العربية إلى ثورات تعيد لهم ثوراتهم التي فقدوها في لحظات مجنونة سادتها الإختلافات واستحكمت بها ادوات الدولة العميقة ، وعززتها تحالفاتها مع دول الجوار والأقليم والعالم .
اولئك الذين لم يستوعبوا بعد يتوجب منهم النظر إلى موقف السيسي وإعلامه من ثورة الشعب السوري ، فالرئيس المصري لا يختلف موقفه عن موقف عبد الملك الحوثي وأتباعه .
ومع اختلاف الباعث والصلة والطريقة ، فلا الأول جسد قيم ومبادئ ثورة يناير في مصر أو أن الآخر ابقى شيئا من جمهورية سبتمبر أو ثورة فبراير في اليمن .
الثورة واي ثورة ، يجب أن تكون نقطة فاصلة بين تاريخين وعهدين ، بين ماض ساد وينبغي طي صفحته السيئة ، وبين حاضر ينبغي أن يسود ويتمايز إيجابًا عن سابقه .
وعلى هذه الثنائية يمكن قياس نجاح أو فشل الثورات ، فكل ثورة لا تحقق غاية الديمقراطية ومن خلال الممارسة الحُرة والنزيهة هي ثورة مجهضة ؛ فهذه الممارسة الحُرّة هي الضامن والحامي لثورات التغيير ، وغير ذلك مجرد إعادة إنتاج لأنظمة عسكرية عائلية طائفية فاسدة ..
محمد علي محسن