د. عادل الشجاع
د. عادل الشجاع

السقوط الأخير للقوميين العرب: حين يُعبد العجل بخوارٍ سياسي

ما كان لمشهد الأمس في بيروت أن يمر مرور الكرام، فذلك الاجتماع الذي سمي “مؤتمر القوميين العرب” لم يكن إلا جنازة فكرية لجماعة كانت يوما تبشر بالنهضة والوحدة والتحرر، فإذا بها اليوم تجلس خاشعة أمام شاشةٍ تبث خطاب عبد الملك الحوثي، تصغي لكلماته كما لو كانت وحيا، وتهز رؤوسها إيمانا وتصديقا، هكذا ببساطة، تهاوى البناء الذي شيدته أجيال من المفكرين والمناضلين، ليُستبدل بمشهد عبثي يجمع بين الخرافة والادعاء!.

 

لقد أثبت التاريخ أن الإنسان يُقدّس ما يرى فيه خلاصه، ولكن حين يُضلل العقل وتُطفأ شعلة الوعي، يتحول هذا التقديس إلى عبادة عمياء، يختلط فيها الرمز بالوهم، والمخلص بالجلاد، هكذا فعل القوميون العرب الذين كانوا يوما يتغنون بالعقل والحرية والتنوير، فإذا بهم يسقطون في هوة التبجيل لشخصٍ لم يعرف طريق الجامعة، ولم يقدم سوى خطاب تعبوي مذهبي مغلق، قائم على الكراهية والانغلاق والاصطفاف الطائفي!.

 

إن المشهد الذي رأيناه لم يكن مجرد انحراف سياسي، بل هو إفلاس فكري كامل، وانهيار للمقاييس التي كانت تفرق بين الوعي والخرافة، وبين المشروع الحضاري والردة إلى العصبيات الضيقة، القوميون الذين طالما تغنوا بالوحدة العربية وجدوا أنفسهم اليوم يصفقون لمن يقود مشروع تمزيق الأمة من أقصاها إلى أقصاها، باسم “المقاومة” و“الصمود”، وهي الشعارات ذاتها التي صارت تستخدم لتبرير الاستبداد والدمار..

 

أي سقوط هذا حين يصبح المثقف تابعا للدهماء، والعقل أسيرا للشعارات؟ كيف يرضى باحث أو أستاذ جامعي أن يجعل من نفسه مُروجا لوهم سياسي مموّهٍ بلبوس ديني؟ إنها ليست مجرد لحظة ضعف، بل لحظة انكشافٍ عميق: انكشاف عجز الفكر القومي عن تجديد ذاته، وعن قراءة الواقع بمعايير العصر، لا بمعايير الماضي!.

 

لقد صنع القوميون، بوعي أو بغير وعي، “سُلّم الوهم” الذي صعدوا عليه، وها هو اليوم يتهاوى تحت أقدامهم، صنعوا لأنفسهم مخلصين وهميين، ثم كفروا بهم حين خاب الرجاء، وها هم يعيدون إنتاج الوهم ذاته في نسخة أكثر بؤسا، ولو أنهم منحوا العقل مكانته، ووضعوا “الرموز” في حجمها الطبيعي، لكان بإمكانهم أن يبنوا مشروعا واقعيا، متينا، يستمد قوّته من الفكر لا من الخوار!.

 

إن ما جرى في بيروت لا ينبغي أن يُقرأ كواقعة عابرة، بل كإشارة إلى نهاية مرحلةٍ طويلة من التضليل الذاتي، فحين يصبح القومي تابعا للمذهبي، والمثقف مريدا للجاهل، تكون النهاية قد كُتبت، وربما كان ذلك قدر كل فكر يرفض النقد الذاتي، ويُؤثر الشعارات على الحقيقة؟.

 

لقد مات المشروع القومي يوم مات العقل في أروقة بيروت، يوم صارت “عبادة العجل” بديلا عن “تحرير الإنسان”، وصار الخوار نشيدًا يُصفّق له الفلاسفة!.