بينما كان الإسلاميون في الجمهورية العربية اليمنية يعيشون عصرهم الذهبي إذا هم يتفاجؤون بالحدث الكبير في التاريخ المعاصر، وهو سقوط المنظومة الماركسية، وما تبع هذا الزلزال العظيم من زلازل ارتدادية في العالم كله، ومنه اليمن والوطن العربي بالطبع، وكان أبرز حدثين ارتداديين لهذا الزلزال الكبير في المنطقة هما تحقيق الوحدة اليمنية وحرب الخليج الثانية.
الحديث عن الوحدة اليمنية ليس بالأمر السهل الاختزالي، وإنما هو حدث معقد تتشابك فيه مصالح وتجاذبات الأضلاع الثلاثة الحاكمة في اليمن الشمالي، كما مر في الحلقتين السابقتين.
قبل الحديث عن الوحدة اليمنية التي حصلت سنة 1990م لابد من الإشارة إلى أن مبدأ الوحدة كان هدفا راسخا في وجدان ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وفي وجدان الشعب اليمني عموما.
ولابد من الإشارة أيضا إلى أهم حدث في سياق الوحدة، وهو محاولة الرئيسين سالم ربيع علي وإبراهيم الحمدي تحقيقها بصورة وطنية خالصة بعيدا عن النفوذين الدولي والعربي، وهي المحاولة التي أودت بحياة الرئيسين معا، والكتابة عن سالمين والحمدي مطلوبة من المثقفين اليمنيين الوطنيين عموما، ولكننا هنا نشير إلى ما يفيدنا في موضوعنا هذا وهو اغتيال الحمدي.
إن الخطوة التي قام بها الحمدي كانت شديدة الخطورة على النفوذ الأمريكي البريطاني المشترك على جزيرة العرب، وعلى المملكة العربية السعودية، فقد قرأوا في هذه الخطوة أن الاتحاد السوفيتي الذي يقاتل في حدود عمان للسيطرة على سواحل شبه الجزيرة بغرض القضاء على النفوذ البريطاني سيكون هو المستفيد الأساسي من هذه الخطوة لتوسيع نفوذه شمالا باتجاه المملكة السعودية للقضاء على النفوذ الأمريكي والمملكة معا.
ولهذا فإن اغتيال الحمدي على ما يبدو من المشهد كان قرارا أمريكيا سعوديا بمباركة بريطانية، وأما اغتيال سالمين فهو فيما يبدو قرار سوفيتي في مشهد ماركسي معقد، الحديث عنه له سياق آخر تماما.
كان لابد للتحالف الأمريكي البريطاني السعودي لتنفيذ مهمة الاغتيال من شريك محلي، وقد وقع اختيارهم على قبيلة حاشد التي كوفئت بعد تنفيذ المهمة باختيارها شريكا محليا للحكم في اليمن الشمالي.
قبيلة حاشد في ظل مد ثوري قومي ويساري عنيف لم تكن تستطيع بمفردها أن تقوم بمهمتها في الحكم المحلي لليمن الشمالي، فلابد لها من حليف أيديولوجي فعال لمواجهة الأيديولوجيا اليسارية المسيطرة على المد الثوري العربي، ولهذا فقد كان احتياجها إلى الإسلاميين ضرورة ماسة كما سبق بيانه.
الإسلاميون وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين لم يقدّموا هذه الخطوة بالمجان، وكان الثمن هو تمكين الدعوة الإسلامية في المجتمع، والإخوان المسلمون من بين الإسلاميين كانوا الأكثر وعيا بضرورة أسلمة الدولة والجيش والقبيلة، وعدم الاكتفاء بأسلمة المجتمع، وهو ما حصل بالفعل، ولم يكن هذا الأمر في هذه المرحلة يشكل مشكلة لا لبريطانيا ولا لأمريكا ولا للسعودية، فقد كانوا جميعا بحاجة إلى الإسلام كقوة أيدلوجية فعالة لمواجهة المد الماركسي والاشتراكي عموما.
سنة 1990م اتضح للجميع سقوط الاتحاد السوفيتي، وسقط معه المد اليساري كله، وبسقوط الاتحاد السوفيتي سقط نفوذه في جنوب اليمن، ووجد الحزب الاشتراكي جناح الطغمة نفسه كاليتيم الذي فقد أبويه وحواليه قوى لا ترحم تريد الانقضاض عليه.
في هذه المحنة تلّمس الطريق فلم يجد غير أخوته اليمنيين في الشمال، وظن أنهم سنده الوحيد لإنقاذه، مع ملاحظة الشيء المستقر في وجدان اليمنيين جميعا، وهو تحقيق الوحدة اليمنية، ولا سيما أنهم لاحظوا تنمية واضحة في شمال اليمن في فترة الثمانينيات... فبدأت تتسارع الأحداث نحو الوحدة.
هنا ارتبكت الحركة الإسلامية ارتباكا شديدا، فقد تخوفت من الوحدة اليمنية على الهوية الإسلامية للمجتمع اليمني، وهو الإنجاز الذي تفتخر به كثيرا، وبالطبع تتخوف على نفوذها الإسلامي في الدولة والجيش.
للحديث عن موقف الإسلاميين من الوحدة سيق هذا المقال، ولكن لابد لمعرفة موقفهم من معرفة موقف الأضلاع الثلاثة الحاكمة في شمال اليمن.
أما الضلع الأقوى من المثلث وهو أمريكا التي خرجت من الحرب الباردة منتشية حتى الثمالة وتتجه إلى ما تسميه أمركة العالم فقد أعطت الضوء الأخضر للمضي قدما في الوحدة، لثلاثة أسباب:
الأول: أن بريطانيا المتنفذة في سواحل الخليج وعمان تنازعها على النفوذ في الجنوب باعتبار أن الاتحاد السوفيتي طردها من الجنوب طردا، ولهذا فهي الأحق به، وبناء على هذا فقد استغلت أمريكا وجدان الشعب اليمني لتوسيع نفوذها جنوبا لتبعد بريطانيا.
والسبب الثاني: أنها ترى في الوحدة اليمنية فرصتها للقضاء على الروح الإسلامية في الدولة والمجتمع، بتشجيع العلمانيين مهما كان اتجاههم، وتجنيدهم ضد الإسلاميين.
والسبب الثالث: أنها تريد مزيدا من التهديدات لحليفها الإقليمي، وشريكها في اليمن، وهو السعودية، بغرض مزيد من الابتزاز.
وأما الضلع الثاني في مثلث الحكم، وهو السعودية فقد كانت فزعة للغاية من الوحدة اليمنية، لأن وجود نظام جمهوري ناجح يسيطر على مساحة شاسعة بجوارها يشكل خطورة بالغة عليها، ولهذا اتجهت إلى تعطيل الوحدة اليمنية بكل قوتها، وكانت حركتها لهذا الغرض شمالا وجنوبا.
أما في الشمال فقد اتجهت إلى تحريض حلفائها من الإسلاميين ضد الوحدة، بحجة أن الوحدة ستجلب الشيوعية إلى الشمال الذي ينعم بخير الإسلام.
وأما في الجنوب فقد فتحت خطا ساخنا للتواصل مع عدوها اللدود السابق لإثنائه عن الوحدة.
ولم تنجح في مساعيها، لأسباب، أبرزها ثلاثة:
الأول: أن أمريكا الضلع الأقوى في المثلث تريد الوحدة.
والسبب الثاني: تشبع الحزب الاشتراكي بعدائها، ولتخوفه منها باعتبارها الداعم الأساسي للمجاهدين الأفغان الجنوبيين، والحاضن الأكبر للمعارضة الجنوبية التي تتحفز للعودة.
والسبب لثالث: وجود وعي في صفوف بعض الإسلاميين في الشمال، وسنعود للحديث عنه ، ولكن لابد قبله من معرفة موقف الضلع الثالث في حكم اليمن، وهو الضلع المحلي.
الضلع المحلي كما سبق بيانه كان عبارة عن واير داخله ثلاثة أسلاك يمده الإسلاميون بأسباب البقاء.
كان علي عبدالله صالح أكثر الثلاثة تحمسا للوحدة، ولتحليل هذا الموقف لابد من قراءة ما حصل بعد حرب 94م فقد اتجه علي صالح لإبعاد رفيقيه داخل الواير ومن يتبعهما، ولهذا فإن غالب الظن أن أمريكا أطلعته في هذه المرحلة دون صاحبيه على سياستها المستقبلية باتجاه إقصاء العقيدة الإسلامية من مؤسسات الدولة والجيش، وأوعزت إليه أنها ترغب في إبعاد صاحبيه لعدم ثقتها بهما لتأييد هذه السياسة.
وكان السلكان الآخران لا يعارضان الوحدة لكن ببعض التحفظات، ولعل أبرز أسباب التحفظ تخوفهم على موقعهما في الدولة القادمة، وأغلب الظن أن الإسلاميين قد لعبوا دورا في كشف حقيقة السياسة المستقبلية الأمريكية في اليمن.
ولهذا فقد كان الشيخ الأحمر والجنرال محسن أكثر تفهما لقلق الإسلاميين على الهوية الإسلامية في المجتمع والدولة.
وهنا نعود للحديث عن الإسلاميين في اليمن، ولا يمكن فهمهم بنظرة اختزالية سطحية، فهم في الواقع خارطة متداخلة، ازدادت تعقيدا بعد هذه المرحلة، فليسوا على رأي واحد، وليسوا على مستوى واحد من الوعي.
فقد كان فيهم الإسلاميون السلفيون المتشبعون بالمنهج الوهابي الذين يهتمون بالعلم الشرعي فقط ولا يفهمون تعقيدات السياسة، ولا البعد الحضاري والتاريخي للصراع.
هؤلاء في قضية الوحدة لم يكونوا يتخوفون إلا من الحزب الاشتراكي في الجنوب، ولم يستطيعوا أن يروا شيئا آخر من تعقيدات المشهد، ولهذا فقد أصدر زعيمهم الشيخ مقبل الوادعي الذي ألف كتابا أسماه (السيوف الباترة لنحر الشيوعية الكافرة) أصدر فتوى قاطعة بتحريم الوحدة مع من أسماهم الشيوعيين في الجنوب، ولم يدرك أن الشيوعية في الجنوب قد احتضرت.
وكان فيهم الجهاديون الذين تم تجنيدهم في السعودية والخليج وشمال اليمن من الجنوب والشمال، وكانوا يشبهون السلفيين في عدم المعرفة بتعقيدات المشهد وأمور التوظيف السياسي، ولم يكن يهمهم غير الوصول إلى عدن فاتحين كما فتحوا كابول، للقضاء على الشيوعية التي قد ماتت بالفعل.
ولهذا فقد كانوا يحدُّون سيوفهم الباترة حقيقة وليس مجازا كما قصده الوادعي في كتابه، ولايهمهم من أين يتجهون إلى عدن، سواء أكان من جهة شرورة أو من جهة صنعاء.
وكان فيهم الإخوان الذين تغلغلوا في المجتمع والدولة والجيش، واطّلعوا من مواقعهم على تعقيدات المشهد، ويحظون بقدر عال من الحنكة السياسية، ومعرفة البعد الحضاري والتاريخي للصراع.
كان هؤلاء يدركون أهمية الوحدة اليمنية لتعزيز مكانة اليمن، ويدركون عمقها في وجدان الشعب اليمني، ولكنهم كانوا يتخوفون على الهوية الإسلامية للمجتمع والدولة، وعلى مكانتهم السياسية في دولة المستقبل.
لا شك أنهم طرحوا تخوفهم على الشيخ الأحمر والجنرال محسن اللذين يقاسمانهم القلق بخصوص التخوف من انفراد علي صالح بدولة المستقبل.
ولا شك أن الجميع طرحوا مخاوف الإسلاميين على الرئيس صالح، وتناقشوا نقاشا طويلا لا يخلو من التوتر، خرج بفكرة تأسيس حزب التجمع اليمني للإصلاح، ليرفع شعار: (نعم للوحدة، لا للدستور) وفي هذا السياق نفهم التصريح الشهير للشيخ الأحمر في مذكراته.
واتجه الجميع إلى عدن، وعدن غافلة عن هذه التعقيدات، أو متغافلة لانشغالها بغرض واحد، وهو الخروج من محنتها... تتبع حلقة جديدة.