د.عارف عبد. الكلدي
د.عارف عبد. الكلدي

قراءة في موقف حزب الإصلاح الحلقة الرابعة والأخيرة: ثلاثون عاما من الأداء

لا يمكن فهم أي حدث دار في مرحلة توقيع الوحدة إلا بفهم تفكير أمريكا آنذاك، التي أرادت أمركة العالم، فبسبب سكرة النصر التي وصلت حد الثمالة اغترت بنفسها كثيرا،  واعتقدت أن التاريخ قد توقف عندها،  وأن ما أرادته سيكون، وما لم ترده لن يكون. 

وفي اليمن أرادت الوحدة ان تمضي قدما،  إذن فلتمضِ قدما،  وأرادت إنهاء دور الإسلاميين وفق سياستها المستقبلية الجديدة،  إذن فلينتهِ دورهم. 

وإذا انتهى دورهم فكيف ستكون اليمن؟ 

دلت الأحداث في الوطن العربي بعد هذه المرحلة على أن لأمريكا خيارين:

الخيار الأول: دعم الرؤساء العرب في الأنظمة الجمهورية لتكوين منظومة حكم وظيفية عائلية،  بحيث يكون رئيس الجمهورية ملكا باسم رئيس، مع ربط كل مقدرات الدولة بالعائلة التي يسهل التحكم بها،  والسيطرة عليها،  وهذا هو الخيار المفضل لهم. 

والخيار الثاني: دعم العلمانيين سواء أكانوا ليبراليين أو يساريين كانوا يوما ما يعادون الإمبريالية والرجعية، بعملية تأديب وإذلال ممنهجه تنتهي بحزء منهم إلى التنازل عن مبادئهم، فيتم تعزيز مواقعهم داخل مكوناتهم على حساب المبدئيين،  ثم إعدادهم ليكونوا قوى وظيفية قمعية بيد الإمبريالية لمحاربة ما كانوا يسمونه بالرجعية (الإسلام).

والظاهر من تحليل الأحداث أن صانع القرار الأمريكي قرر أن يُبقي على هؤلاء احتياطا في حالة ما إذا فشل خيار الأسر المالكة للجمهوريات. 

بالتأكيد لم تكن أمريكا وهي صاحبة الكلمة الأولى في اليمن غافلة عما يدور في مرحلة ما قبل التوقيع، ومن هذا المنطلق لا نستبعد أنها تواصلت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مع قيادة الحزب في عدن أطلعتهم فيها على سياستها المستقبلية، وأنها ترغب في قدومهم إلى صنعاء،  وفي تغيير النظام ذي النكهة الإسلامية هناك. 

وما يدرينا لعله في لحظة نقاء يكتب علي سالم البيض مذكراته،  ويكشف للتاريخ أسرار هذه اللحظات التاريخية إن وجدت. 

المهم سواء حصل هذا أو لم يحصل فإن ردة الحزب الاشتراكي على تحفظ الإسلاميين على الوحدة أو معارضتهم لها كان رفع شعار (الوحدة أو الموت).

علي صالح وعلي سالم كلاهما كانا مستعجلين للغاية في استكمال إجراءات الوحدة بطريقة (الكلفتة) حتى قيل إن اتفاقية الوحدة التي لا تختلف كثيرا عن حجم اتفاقية بيع أرضية قد وقعت في نفق التواهي، وكل واحد من الرجلين ينوي الشر بصاحبه،  والذي يبدو أن أمريكا وحدها من بين البشر هي التي كانت تعرف سر الرجلين. 

بعد أربعة أشهر من التوقيع تأسس التجمع اليمني للإصلاح، برئاسة الشيخ عبدالله الأحمر،  وكانت نواة هذا الحزب تستهدف فئات من المجتمع اليمني تتبعهم قاعدة جماهيرية عريضة،  وهم:  الإسلاميون بكافة طوائفهم.   ومشيخات القبائل وأتباعهم.  وتجمعات مدنية: أكاديمية وتجارية ومهنية ونقابية متعاطفة مع التوجه الإسلامي ممن أثر عليهم الإسلاميون في فترة الثمانينيات.   ومجموعات من المعارضة الجنوبية ذات العاطفة الإسلامية منذ السلاطين إلى جناح الزمرة. 

لكن الحزب لم ينجح في استقطاب جميع هؤلاء،  فالقبائل التي كانت تلقائيا تتبع الشيخ الأحمر في فترة الاستقرار ظهر فيها في هذه المرحلة وخاصة في قبائل بكيل مشيخات قبلية منافسة للأحمر،  ولها توجهات سياسية تتبع الحزب الاشتراكي أو الهاشمية السياسية،  وبالطبع المؤتمر الشعبي الذي كان الجميع منخرطين فيه أصلا. 

وأما الإسلاميون فقد كان قرار تشكيل الحزب سببا في ربكة كبيرة في صفوفهم، ساهم في تعزيز خلافات سابقة كانت تظهر على استحياء. 

أبرز المعارضين لهذا الحزب كان الشيخ مقبل الوادعي،  بحجة أن تشكيله يعد اعترافا بالديمقراطية،  والديمقراطية في تصور الوادعي وجماعته لا تختلف عن الاشتراكية والشيوعية في مخالفتها للإسلام. 

 لم يكتف الشيخ الوادعي بعدم الانضمام إلى التجمع بل هاجمه هجوما شديدا،  أثر على بقية السلفيين الذين لا يتبعونه،  فمنهم من رفض الانضمام واكتفى بالعمل وفق الهامش الديمقراطي الذي وفرته الوحدة في تأسيس الجمعيات الخيرية ومؤسسات التعليم الخاصة، ومنهم من انضم إلى الحزب على مضض وهم السلفيون الإخوانيون،  ولعل إطلاق اسم (التجمع) بدلا من (الحزب) كان من آثار هذا النقاش. 

جماعة الإخوان في اليمن هي التي تحمست للحزب،  وبالتأكيد أنها دارت بينهم نقاشات حول طبيعة وجودهم في التجمع،  ويقال إنهم طرحوا رأيين:   الرأي الأول: أن تكون جماعة الإخوان جماعة داعمة للحزب،  وأن يبقى عملها الدعوي العام منفصلا عن الحزب السياسي. 

والرأي الآخر: أن يتم اختيار بعض قياداتهم المرنة التي تتمتع بالحكمة والقدرة على امتصاص الغضب لتكون نواة الحزب الصلبة،  وذلك خوفا من تفتت الحزب،  واحتمالات انشقاقه، وهذا الرأي هو الذي اعتُمد، والمؤكد ان قيادة جماعة الإخوان التي تقف على هرم التنظيم لم تكن في قيادة الحزب،  فمرشد الجماعة ياسين عبدالعزيز القباطي ظل ولازال بعيدا عن الحزب. 

وهنا يجب أن نفهم شيئا مهما عن جماعة الإخوان المسلمين، ولا أدّعي هنا أني أحيط بهذه الجماعة، ولكن من التأمل في أدائها ومعاملاتها، وقراءة متواضعة عنها،  تبين لي من شأنها أنها ليست جماعة سياسية بالمقام الأول، واهتمامها بالسياسة ياتي ضمن اهتمام حضاري عريض، يصب في هدف واحد،  وهو المحافظة على هوية الأمة الإسلامية أمام الهجمة الحضارية الاستعمارية الإمبريالية التي تريد نزع الإسلام عن المسلمين والسيطرة على مقدراتهم. 

 ولهذا السبب فإنها لا تملك فلسفة سياسية واضحة، فهي في البلدان الملكية تتماشى مع النظام الملكي، وفي الانظمة الجمهورية تتماشى مع النظام الجمهوري،  وفي الملكية الدستورية تتماشى مع الملكية الدستورية، وفي البلدان الغربية يمارسون الدعوة الإسلامية فقط، ويرعون مصالح المسلمين فيها،  أهم شيء عندهم أن تظل البلد ملتزمة بالهوية الإسلامية، فإن لم تكن كذلك فإن الجماعة تسعى لتحقيق هذا الهدف. 

 وهي في نشاطها ملتزمة بالعمل السلمي،  ولا تمارس أي عنف مهما كانت الاستفزازات،  ولا تمارس أي نشاط عسكري إلا إذا كان تحت مظلة الشرعية الوطنية، إلا في فلسطين فهي هناك وهناك فقط حركة مقاومة مسلحة. 

 وهي أيضا لم تتبنَ مذهبا فقهيا أو فكريا،  فهي في البلدان الشافعية شافعية، وفي البلدان الحنفية حنفية،  وفي البلدان المالكية مالكية،  وفي البلدان الحنبلية حنبلية، وفي البلدان الأشعرية أشعرية،  وفي البلدان السلفية سلفية وفي البلدان الصوفية صوفية. 

الإخواني عندهم هو من اقتنع بالهدف الأساسي،  ولا يهم بعد ذلك مذهبه وعقيدته،  وقاعدتهم هي (نتعاون فيما اتفقنا عليه،  ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).

وبناء عليه فإن جماعة الإخوان تتشكل في كل بلد وفق أولويات البلد ومصلحته،  ولها الصلاحيات الكاملة في وطنها،  غير أنها مرتبطة مع بقية الجماعات في البلدان الأخرى برابط مهمته تقديم المشورة والنصح،  ولابد أن لهم مراكز دراسات تراقب الوضع الحضاري والسياسي وتكتب التوصيات،  وتقدم المشورة. 

ولهذا فليس صحيحا أن حزب الإصلاح هو جماعة الإخوان،  وليس صحيحا أن جماعة الإخوان في اليمن تتلقى أوامر مباشرة من تنظيم عالمي،  بل وجودها في التجمع اليمني للإصلاح لا يختلف كثيرا عن وجودها في الثمانينيات ضمن تشكيلات المؤتمر الشعبي العام،  والفارق أنها في التجمع الجديد صارت توجد في نواته الصلبة. 

من هنا نستطيع فهم تصريحات الحزب في هذه المرحلة بشأن الإخوان المسلمين،  ونستطيع أن نفهم علاقته بجماعة الإخوان، في المراحل المختلفة. 

فالفترة من قيام الوحدة إلى حرب 1994م تشكل مرحلة مستقلة،  كانت أولوية الحزب فيها هي المحافطة على هوية اليمن الإسلامية، عن طريق النضال من أجل تعديل الدستور والقوانين واللوائح التنفيذية بما يتوافق مع هذا الهدف، وكانت طبيعة هذه المرحلة تقتصي وجود جماعة صلبة مرنة متماسكة في نواته،  وهو الفراغ الذي سدته القيادات الإخوانية في الحزب. 

والفترة منذ 94 إلى 2011م تشكل مرحلة ثانية، إذ أن التعديلات الدستورية بشأن أسلمة الدستور لم يكن إلا بثمن باهض،  وهو إعطاء الرئيس في تعديلات الدستور صلاحيات واسعة مكنته من تعزيز سياسة التوريث، فتحولت أولوية تجمع الإصلاح في هذه المرحلة إلى محاربة التوريث،  ومنع علي صالح من تحويل اليمن إلى إقطاعية خاصة به،  ولهذا اقتضت هذه المرحلة تأسيس تجمع سياسي جديد من عدة أحزاب،  فجاءت فكرة اللقاء المشترك .

والفترة من 2011م إلى تاريخه شملت مرحلة جديدة،  لم ينتهِ مشهدها بعد.   ثار شباب اليمن ضمن الثائرين من شباب العرب في الجمهوريات العربية الملكية نتيجة ما وصلوا إليه من بؤس وتحطم،  وانضم اللقاء المشترك في من انضم إلى الاحتجاجات، فكان شباب الإصلاح في مقدمة الصفوف، في لحظات ثورية تجاهل فيها حزب الإصلاح تعقيدات المشهد. 

نجح الشباب في إسقاط الضلع المحلي من مثلث الحكم،  وظنوا أنهم قد فازوا باليمن،  ولكنهم تفاجؤوا أن من أسقطوه ليس غير ضلع واحد من أضلاع المثلث الحاكم، وبقي الضلعان الآخران صامدين، ولهذا تعثرت الثورة، وتنصلت الأحزاب منها،  وبدأت ترتب وضعها كقوى وظيفية جديدة. 

وبقي حزب الإصلاح وحده،  والكل يشحن ضده،  وهنا كان لابد للحزب أن ينحني للعاصفة،  وهو الأمر الذي أدى إلى حنق بعض شباب الثورة الذين كانوا منتسبين إليه يوما ما،  فرحلوا إلى اسطنبول محانقين. 

أما القيادة المجربة،  وهي التي لا زال الحزب يلتف حولها فقد ذهبت إلى الرياض في مهمة لا تزال تناضل من أجلها،  وهي إقناع السعودية بأن مصلحتها أن يبقى اليمن مستقرا،  وأن اليمن إذا احترق فلابد للسعودية أن تحترق إلى جانبه،  لأن ارتباط أجزاء جزيرة العرب ببعضها البعض ارتباط تاريخي من قديم الزمان،  ولعلها تقول للسعودية أن أمريكا لم تعد بأفضل أوضاعها،  وأنه يمكن للأمر الواقع ان يغير من مطالبها. 

 لهذا كله فإن الحزب يبدو أنه مستعد في هذه المرحلة لئن يتحول إلى حزب وطني عريض يجمع في طياته إلى جانب كتلته الحالية كل القوى الوطنية المؤمنة بالجمهورية والثورة واليمن الاتحادي، حتى لو اقتضى الأمر تغيير اسم الحزب،  لسبب واضح وهو أن الحمل صار أثقل من وزن الحزب، فلم تعد قضية الهوية الإسلامية أو قضية محاربة التوريث ومقارعة الأطماع الأجنبية هي أولويته فقط،  بل صارت الثورة والجمهورية وكيان اليمن الموحد مهددة بالسقوط،  وتتناهشها مليشيات مسلحة تنذر بخطر يأتي على الاخضر واليابس،  نسأل الله أن يرحمنا ويحفظنا.