سلام مني عل المطارح واهلها *** محد يسي نفسه على يافع رئيس وان حد تخبّركم على مكتب يهر*** قولوا يهر منّه ثلتّعشر خميس
كان هذا هو زامل مكتب يهر في مهرجان يافع التراثي السنوي لهذا العام1441هـ، والزوامل الأخرى لو تأملتم فيها لوجدتموها تسير في نفس فلك هذا الزامل، في قراءة الشخصية اليافعية.
اللافت في زامل يهر أنه اشتمل على فلسفة اليافعي السياسية بعبارة مختصرة: (محد يسي نفسه على يافع رئيس) يريد أن يقول إن رئاسة يافع ليست بالأمر السهل، وهو يشير إلى محاولات بعض القيادات القبلية فرض رئاسة بطريقة لا يرضاها الشاعر ولا قومه، ولا غيرهم، ولا تناسب الشخصية اليافعية، ولهذا قال باسم مكتبه: "يهر منّه ثلتعشر خميس"، يعني أن كل خميس له صوته ورأيه، ولا يمكن لأحد تجاوزهم وهو في طريقه إلى الرئاسة.
الشخصية اليافعية صعبة المراس، عصية على الانقياد، غير قابلة للاستبداد، شديدة الغيرة، وعلى تعبير أحد من كان يزور يافع باستمرار للتجارة (كلهم رؤوس).
الوصول إلى الرئاسة بشكل عام في يافع وغيرها له ثلاث طرق:
الأولى: طريقة القهر والغلبة، أي أن يصادر طرف آراء الآخرين، ويفرض نفسه رئيسا عليهم بالقوة والاستبداد، فيخضع له الآخرون.
والثانية: طريقة التراضي والتوافق، وهي التي تطورت في الطريقة العصرية إلى صندوق الاقتراع، وهي طريقة قديمة، كانت سائدة في أثينا وروما قبل أن تتحول إلى إمبراطورية.
والثالثة: التعيين، ولكن هذه الطريقة لا يمكن أن تكون في دولة ذات سيادة، لأن رأس الدولة ذات السيادة إما أن يصل بالقوة أو بالتراضي. أي أن هذه الطريقة يمكن أن تكون للكيانات المحلية التي تخضع لدولة، أو في حكام الولايات في الدول الإمبراطورية.
الشخصية اليافعية لا يمكن أن ترضى بالطريقة الأولى، طريقة القهر والغلبة ومصادرة الرأي، لأن التدافع في يافع شديد للغاية، والتدافع بطبعه يمنع الاستبداد والقهر، ولهذا فالذي تنقاد له هذه الشخصية هو إحدى الطريقتين الأخريين: إما طريقة التوافق والانتخاب، أو طريقة التعيين من دولة قائمة، ويافع بالطبع ليست دولة مستقلة، وإنما سلطة محلية تعمل ضمن دولة.
شغل بال كاتب هذا المقال سؤال، وهو كيف صعد معوضة بن العفيف إلى رئاسة يافع بني قاصد، وعلي بن أحمد هرهرة إلى رئاسة يافع بني مالك؟
الذي يعرف الشخصية اليافعية يجزم أن هذين الرجلين لم يصعدا بالقوة والقهر ومصادرة الرأي.
الظن الغالب على تصور كاتب هذا المقال أنهما صعدا بطريقة التوافق والتراضي والانتخاب بصورته المتيسرة في ذلك الزمان.
لكن الذي يعرف الشخصية اليافعية يدرك أن التوافق في يافع ليس بالأمر السهل، ما لم يحدده قانون واضح مثل قوانين الانتخابات السائدة في الأنظمة الجمهورية الديمقراطية المعاصرة، وهي أمور لم تكن معروفة آنذاك.
ولهذا كنت أظن وفق هذا التصور أن هذا الصعود فلتة من فلتات التاريخ اليافعي اقتضته ضرورة القهر الزيدي الذي عانت يافع مرارته، وهو احتمال لا زال قائما، لكنه ضعف مع احتمال آخر أقوى منه.
وهو أن صعود هذين الرجلين اللذين كانت لهما وجاهة اجتماعية بين القوم كان بتعيين من الوالي العثماني، بتوافق يافعي بطبيعة الحال، فقد اطلعت على وثيقة مراسلة بين الوالي العثماني وبين علي بن أحمد هرهرة الذي وصف في الوثيقة بصاحب يافع، وورد فيها ذكر معوضة بن العفيف، ووصف بصاحب بني قاصد.
وفق هذا التصور الذي يبدو أقرب إلى الصواب، فإن الدولة العثمانية ذات الطابع الإمبراطوري التي اضطرت إلى الانسحاب من اليمن بسبب المقاومة الزيدية، وبسبب أمور أخرى خارج اليمن لم تترك اليمن هملا، بل نظمت أمور المناطق السنية لمقاومة أي توسع زيدي، وأعطت هذه الكيانات المحلية صلاحيات إدارية ومالية كاملة، مع بقائها في مسألة السيادة والعلاقات الخارجية ضمن دولة الخلافة الإسلامية ذات الطابع الإمبراطوري، وهو ما دلت عليه وثائق أخرى توزع تاريخها على مدى ثلاثة قرون .
الذي يبدو من تأمل التاريخ أن حاكم حضرموت الكثيري كان هو المشرف على هذه المقاومة بأمر من الوالي العثماني، والعلاقة بين الكثيري والعثمانيين كانت علاقة ممتازة من أيام البرتغاليين، وقد حدثني أحد المهتمين بالتاريخ أن الكثيريين عندهم وثيقة من السلطان العثماني بحكم المناطق الممتدة من أطراف أبين إلى أقصى حضرموت، ولهذا لعب علماء الدين من صوفية حضرموت دورا أساسيا في تعبئة قبائل جنوب اليمن معنويا وشرعيا لمجابهة الدولة الزيدية.
في زمن الحروب يكون قائد السلطة المحلية عسكريا حتى في الأنظمة الجمهورية، وتأملوا في محافظي المحافظات حاليا في زمن هذه الحرب اليمنية التي نعاني مرارتها، ستجدونهم في الغالب ألوية عسكرية.
ولو تأملتم النظام الإداري اليافعي بعد رحيل الأتراك لوجدتموه عبارة عن جيش، سمي قائده فيما بعد سلطانا، وهي تسمية يبدو أنها كانت للاستهلاك المحلي لا غير.
وسمي قادة كتائبه عُقّال المكاتب، والمكتب هو عبارة عن كتيبة عسكرية، يجمعهم النظام العسكري أكثر مما يجمعهم النسب، وبعد انتهاء الحروب الزيدية استمر هذا النظام العسكري، وتطور ليصبح نظاما إداريا واجتماعيا.
السلطانان اليافعيان رغم استمرار حكمهما أكثر من ثلاثة قرون لم يستطيعا قهر اليافعيين، بل ظلت العلاقة بينهما وبين اليافعيين أقرب إلى الملكية الدستورية، ولف العمامة على رأس السلطان عند تنصيبه ترمز إلى هذا النظام، فقد كان عُقال المكاتب ومن حول كل عاقل عقال فخائذ المكتب يشتركون في لف عمامته السلطانية بحسب أعراف توافقوا عليها.
وكذلك كان الأمر في تنصيب عقال المكاتب، فإن عقال الفخائذ كانوا يشتركون في وضع عمامته على رأسه.
لم يكن لهم دستور مكتوب، ولكن كانت لهم أعراف وتقاليد تقوم مقام الدستور والقوانين، وكان اليافعي وفق هذه الأعراف يستطيع أن يعترض على أي تصرف من السلطان أو شيخ المكتب فيه ضيم عليه.
حدثني أبي أن عمي كانت له تجارة بسيطة بين يافع والحصن، ثم بدا للسلطان عيدروس أن يفرض ضرائب على أي بضاعة تدخل الحصن، وهذا الإجراء كان استبدادا من السلطان لا يستند إلى أي عرف. بطبيعة الحال رفض عمي أن يدفع الضريبة، ولكنه اضطر إلى القبول أمام إصرارهم، وفي نيته الاعتراض عليها، فلما أخبر الفخيذة بالأمر تحينوا طلوع السلطان إلى القارة التي كان يتنقّل بينها وبين الحصن، فكمنوا له في طين يملكونها على طريق السلطان تشرف عليها مرتفعات، ثم رفضوا مرور السلطان عبرها إلا أن يدفع ضريبة أو يرد ما أخذه من صاحبهم.
كان السلطان عيدروس حليما، فتبسم ورد الضريبة التي أخذها عُمّاله بالحصن، وتبسمه لم يكن من حلم شخصي فقط، ولكنه أيضا من نظام سائد، توافقت عليه الأسلاف وسارت عليه الأخلاف مع جميع القبائل والفخائذ، وليس مع هذه الفخيذة فحسب.
سقطت السلطنة وقامت الجمهورية، وصارت يافع مديرية ثم مديريات لكل مديرية حاكم محلي يعين أو ينتخب محليا دون أن يفكر في توريث المنصب عند نهاية ولايته.
حاليا اهتزت الدولة الحديثة والنظام الجمهوري، وبرز النظام القبلي الإداري القديم الذي كان يورّث المناصب، وتجلت فيه الشخصية اليافعية التي لا يناسبها غير النظام الجمهوري الديمقراطي. (محد يسي نفسه على يافع رئيس)، يعني لا يمكن لأحد ان يصادر الرأي، ويفرض نفسه فرضا.