إلى عهد قريب كانت الكتابة في المجلات والصحف منصبًا شريفًا لا ترقى إليه سوى نخبة من رجال الفكر والإعلام الذين تمرسوا على فنونها، وأمسكوا بزمام أساليبها، وصار لهم قراؤهم ومتابعوهم، وأتذكر أني كنت أتابع ما يكتبه بعضهم حرفًا حرفًا، بل إنّ بعض المجلات (كماجد في طفولتي، والعربي والفيصل والبيان والأدب الإسلامي) ما كنتُ لأصافح غلافها الأول إلا لأتجول عبره بين صفحاتها حتى آخر حرف فيها، ثم أعود إليها بين فينة وأخرى حين أُعدَم جديدًا أقرؤه! وكثيرًا ما ألتهم الجريدة اليومية أو الأسبوعية (كالأيام مثلًا) حتى الصفحة الرياضية منها رغم كراهيتي للرياضة وأخبارها ونجومها وصفحاتها الكئيبة التي تقع عادة قبل الصفحة الأخيرة، ولا يفوتني أن أتلهّى بالكلمات المتقاطعة و(السودوكو) وأن أقتصَّ من الجريدة ما يروق لي من مقالات تستحق الحفظ داخل صندوق الصفيح المعدني الذي أخبِّئ به كومًا من الأوراق والقصاصات ولا أفتش فيما تراكم فيه إلا مرة واحدة كل عشر سنوات! وكم كنت أطرب وأفرح عندما يُنشر لي شيء في جريدة من الجرائد كل عدة سنوات، بل أتذكر أول مرة يظهر فيها اسمي على جريدة! حينما نشرتْ لي صحيفة (الثوري) شكوىً عن الإهمال الذي تتعرض له مَدْرَستي، وأنا حينئذٍ طالب في الصف السادس الابتدائي سنة 1988م.
ولا أخفيكم أني كنت أذوق حينها للمجلات والصحف لذة تطرب لها كل خلية في جسدي، وما زلت أحتفظ في مكتبتي بمئات الأعداد من المجلات القديمة أفزع إليها كلما دبَّ الضجر إلى قلبي، لأُحْيِي بها أمسي الراحل، وأتذوق منها عصارة الكتابة المحترمة عندما كانت منصبًا شريفًا مقدسًا.
ولكنّ الأمس قد رحل إلى غير رجعة، ورحل معه كل ما رأيناه جميلًا وأَلِفْناه وعشقناه في زمن الصبا والشبيبة، وتراجعت وسائل التثقيف والإعلام القديمة (المحترمة) وانعدم بعضها، لتحل محلها وسائل جديدة (فاجرة) بكل ما تعنيه الكلمة من معنىً، جعلتْ من البُغاث نسرًا، ومن الرويبضة صدرًا أعظم، فرأينا الجاهل يتصدر ويتصدى لمنصب الكتابة دون أثارة من علم ولا وعي ولا عقل، وسقطت الكتابة من عليائها إلى الحضيض الأسفل، فلا نفتح مواقع التواصل إلا لتتدفق علينا سيول من الغثاء والغباء ونعيق الجهالة، ونفقد معها الذوق الجمالي الذي تربينا عليه في زمن مضى، ويتربى على هذا الغثاء المستطير جيل جديد يتصدر للكتابة قبل أن يخلع (البامبرز) عن حِقْويه.
وكتبه: نادر سعد العُمَري عدن – 8 يونيو 2021م.```