د. نادر سعد العمري
د. نادر سعد العمري

القارئ والمقرئ، وكلام حول الرُّقية والرُّقاة

لاحظتُ قبل قليل وجود زوبعة في صفحات "الفيسبوك" حول مشكلة تتعلق بشخص ما، يعمل راقيًا... وبعيدًا عن مشكلته وما يكتنفها، أريد التنبيه على عدة مفاهيم مختلطة عند عامة الناس، وأرجو ممن يعلق على منشوري التركيز على جوهر الفكرة، والابتعاد عن الشخصنة أو الكلام عن الحدث الشائع الليلة، وسأحذف أي تعليق يخرج عن جوهر المنشور.

 

أولًا: (القارئ) اسم فاعل من الفعل (قَرَأ) المتعدي إلى مفعول واحد، وهو وصف لكل من يقرأ، ويراد به في الاصطلاح الشرعي: قارئ القرآن، سواء كان مُقرِئًا لغيره أم لا، ولا يختص هذا الوصف بفئة من قرّاء القرآن دون غيرهم، وتخصيص هذا اللقب بالرُّقاة غير سديد.

 

و(المُقْرِئ) اسم فاعل من الفعل (أَقْرَأَ) المتعدي إلى مفعولين بهمزة التعدية، وهو اصطلاحًا: الذي يعلِّم غيرَه القرآن، وتؤخذ عنه الطرق الصحيحة والروايات المعتبرة للقراءات القرآنية، ويجيز بها من استوفاها وصار صالحًا للإقراء بعد اكتمال العرض للمصحف بجميع القراءات أو ببعضها. ولا يصلح إطلاق صفة (المقرئ) على الرُّقاة.

 

ثانيًا: ما من شك في مشروعية الرقية الشرعية والتداوي بالقرآن الكريم، لكن لا ينبغي اتخاذ (الرقية) عملًا يتكسَّب به الراقي، ويفتح لأجله العيادات، ويصير مقصدًا للمرضى، لأن هذا ليس من عمل السلف ولا عرفه الأولون؛ إذ كانت الرقية عملًا فرديًّا يقوم به الإنسان في خاصة نفسه، أو يطلبها ممن يعتقد فيه الخير والصلاح، دون أن يتخذها هذا الراقي مهنة وعملًا. 

 

ففكرة عيادات الرقية فكرة عصرية جديدة، من دوافعها أن بعض الناس لم يفلحوا في الحصول على عمل آخر يتكسَّبون منه، فلجأوا إلى هذه الفكرة، وقد تكون لها دوافع أخرى حميدة، ولا يمكن إطلاق حكم واحد على جميع من يعملون في هذا المجال، وما من شك أن كثيرًا من هؤلاء الرقاة صالحون وأخيار، وقد نفع الله بهم بعض المرضى.

 

وغير خافٍ من التجارب أيضا أن بعض الرقاة دجالون ومحتالون، يبتغون من هذا العمل الاحتيال على الناس وأكل أموالهم بغير حق، فينبغي الحذر عند التعامل معهم، وعدم الاغترار بالدعاوى والمظاهر أو الثقة إلا بمن عُرف طيب سيرته وحسن سلوكه في معاملته الخاصة والعامة.

 

ثالثًا: هناك مبالغة شديدة عند غالبية هؤلاء الرُّقاة في تشخيص الحالات التي تصل إليهم بكونها من السحر أو المس أو العين، وبيع للوهم على السذّج والبسطاء، في حين أن كثيرًا من تلك الحالات إنما هي عاهات نفسية سببها الضغوط الأُسرية والاجتماعية، وكان الأحرى بهم توجيه من يقصدهم إلى عيادات الطب النفسي واختصار الطريق والتكاليف عليهم.

 

وليس صوابًا أن مجرد صَرَع المريض عند سماع القرآن دليل على إصابته بأمراض روحية من العين والسحر والمس، فصاحب العاهة النفسية تكون عنده قابلية شديدة للإيحاء، وقد يُصرَع من مجرد النظر إلى عينيه، وتحضرني هنا قصة حكاها أحد المشايخ الأفاضل، وهو أنهم جلبوا له امرأة ليقرأ عليها، وزعموا أنها مصابة بالسحر، فجلس إلى جانبها، وأخذ يتمتم بكلام غير مفهوم، فصاحت المرأة وغشي عليها وأخذت تترنح من الصرع، فضحك الرجل وقال لأهلها: خذوا ابنتكم إلى طبيب نفسي، فليست مسحورة! قالوا له: وكيف عرفتَ؟ قال: كنت أقرأ الآن أبياتًا من معلقة امرئ القيس بصوت غير مفهوم، ولما سمعتني تأثرت بالإيحاء وصُرعت، فهي مريضة نفسانية وليست مسحورة.

 

وكم عرفتُ من حالاتٍ من هذا النوع، وخصوصًا من النساء، تعتريهنَّ نوبات الصرع فجأة بعد الزواج، فتبدأ رحلة العناء من راقٍ إلى آخر، وتُستنزف الأموال والجهود، وعندما تفتِّش في سريرة حالها تجدها صُدمتْ بعد زواجها بوضع جديد في بيت الزوجية من الأعمال والأعباء والهموم والمشاكل وربما التضييق والحرمان من بعض حقوقها، فاستحال ذلك إلى عُصاب نفسي تنفِّس به عن غضب مكبوت وعدم رضًا بالحال، لم تطق حبسه والتعايش معه، وبمجرد انتقالها إلى بيئة أخرى مريحة ومناسبة لها تزول تلك الحالة.

 

رابعًا: ليس كل من لبس عمامة وأطلق لحيته أو فتح عيادة للرقية أو أَمَّ الناس في مسجد من المساجد يعدُّ شيخًا أو عالمًا بالشرع أو يصلح للإفتاء في أمور الدين، فالفقيه الصالح للفتوى له شروط ثقيلة، ويحتاج في تحصيلها إلى عقل ذكي، ونفس قابلة لتحصيل المَلَكة الفقهية، وتحصيل علمي طويل ودؤوب على مدى سنوات طويلة على أيدي أساتذة فقهاء من أهل التخصص العالي.

 

والله الموفق والهادي.

وكتبه: نادر سعد العُمَري

ليلة الجمعة 24 رجب 1446

الموافق 24 يناير 2025م