إن كان من شيء أغبط عليه زوار مدينة القاهرة فهو مكتباتها العامرة، لا سيما تلك التي تبيع الكتب القديمة، ولم يتيسر لي سفر إلى هذه المدينة التي عشقتها منذ طفولتي، وعرفتها عبر ما رأيته وسمعته وقرأته عنها علمًا وأدبًا وفنًّا، فكأني عشت فيها دهرًا طويلًا.
وفي مخيلتي قائمة طويلة من الكتب تكاد تبني هرمًا كهرم العم خوفو لو رُصّت فوق بعضها، أتمنى شراءها من مكتبات سور الأوزبكية ومن غيرها، وأتمنى (وفي التمني شقاء) أن أمتلك (جونية)* من الدولارات (الغير المجمدة ولا المذبوحة) التي تفي بأثمان هذه القائمة، وطائرة خاصة تنقل هذا الهرم الورقي إلى جزر واق الواق خلف جبل قاف، وبيتًا هائلًا في مكان هادئ بارد بناحية قَصيّة من تلك الجزر، أجعل منه مكتبة، فلا يزعجني هناك وأنا أقطف الثمرات في جنات نعيمها انطفاء الكهرباء، ولا لفحات الحر، ولا لسع البعوض، ولا ضجيج الأطقم العسكرية، ولا (قوارح) آخر الليل.
أعلم أن الأماني مجرد أحلام، وأن الواقع يزعج الغارق في أحلامه وينبهه، ويقول له أنت في مدينة فقيرة، ماتت مكتباتها ولم يبق منها سوى رمق، وعلى ذلك الرمق تعيش عندما تختلس أحيانًا حفنة من الريالات (التي لا تسمن ولا تغني من جوع) من حقيبة زوجتك التي اختلستْها هي الأخرى من راتبك قبل أن يتقاسمه الغرماء، وتذهب أنت إلى تلك الهياكل الهزيلة من المكتبات العجفاء التي لا تنقي ولا تهش ولا تنش ولا يدل على وجودها اسم ولا لون ولا لقب، وتشتري كتابًا أو كتابين بعد أن تقطع صفحاتها ذهابًا وإيابًا سبعين مرة، وتصلي الاستخارة قبل شرائها بالغدو والآصال، وتعود بها مخفية بين طيات ثيابك حتى تدسها في مكان آمن لا تقع عليه عين زوجتك التي تخشى أن تكتشف جريمة اختلاسك للنقود، فتحيلك إلى هيئة مكافحة الفساد، وأنت بائس لا تملك الرشوة للخلاص من براثن الهيئة الموقرة.
وإن كان من عزاء وشفاء لبعض ما في الصدر فهو نعمة الكتب الرقمية التي هطلت من العالم الأزرق، وهي على أذيتها للعين عندما تطول بها الجلسات بُلغةٌ للمقتصد وزاد للراكب يبلغ بها المرء ما لا تبلغه الأحلام والأوهام والأسفار من عالَم الكتب وثمرات المطابع. * الجُوْنيّة: الشَّوَال بلهجة أهل اليمن.