بقلم/د. نصر محمد عارف
بداية لا بد من التأكيد على أن مفهوم الثورة مفهوم وصفي، لا يحمل أية قيمة إيجابيه في ذاته، ولا يمكن عقلا أن يتم التسليم بالنظرة الشعبوية التي تجعل الثورة هدفاً في ذاتها، وأنها قيمة سياسية تحمل الكثير من الفضائل، وأن الانتساب إليها وحمل شعارها يعطي الإنسان وضعاً اجتماعياً وإنسانياً مميزاً، وأن الكثيرين يحبون أن يوصفوا بالثوريين؛ لأن ذلك يميزهم على باقي المجتمع. هذه النظرة الشعبوية التي تصل إلى حد الغوغائية أصبحت تهيمن على الثقافة العربية طوال السنوات العشر الماضية.
وأصبح رفع شعار الثورة يبرر كل الأفعال التي تأتي بعد ذلك، لأن الثورة تمنح من يحمل شعارها فعل أي شيء، وكل شيء، مثلما قال الشاب الذي شارك في إحراق المجمع العلمي المصري؛ أعظم مكتبة للكتب والمصادر النادرة في مصر عام 2011، حين سأله الصحفي لماذا شارك في إحراق المجمع العلمي الذي لا يمثل أية رمزية سياسية للنظام الذي يثورون ضده، فقال " وهل الثورة إلا الحرق والتدمير".
الثورات فعل سياسي متطرف تقوم به جماهير غاضبة؛ لتغيير واقع غير مقبول بالنسبة لها، وكان يمكن سلوك طرقٍ أخرى للتغيير السلمي البناء، وهو ما يسمى الإصلاح السياسي. لذلك يعتبر الدارسون لعلم السياسة أن الثورة عكس الإصلاح، لأن الإصلاح فيه درجة عالية من الضمان والطمأنينة لتحقيق الأهداف، ولا ينتج عنه أثارٌ جانبية مدمرة أو سلبية، وفي العادة يحقق درجة معينة من النجاح تختلف من مجتمع لآخر، ومن سياق تاريخي لآخر، لذلك فإن الإصلاح فيه من الصلاح القدر الكبير، أما الثورة فهي فعل عنيف متهور غاضب، يتحرك بعواطف جياشة يصعب التحكم فيها، لذلك فإن نتائجه قد تكون فيها من الصلاح الشيء القليل مثلما حدث في الثورة الفرنسية، أو القدر الكثير مثلما حدث في الثورة الأمريكية، وفي جميع الثورات على الاستعمار الأجنبي، ولكن قد يكون فيها من الفساد الكثير مثلما حدث في الثورة الروسية، وكل الثورات العنيفة التي اتبعت النهج الماركسي المتطرف.
يعتبر الدارسون لعلم السياسة أن الثورة عكس الإصلاح، لأن الإصلاح فيه درجة عالية من الضمان والطمأنينة لتحقيق الأهداف، ولا ينتج عنه أثارٌ جانبية مدمرة أو سلبية.
إذن الثورات عادة ما تكون مغامرة غير محسوبة أو مضمونة العواقب، لأنها لا تسير وفق خطة أو منهج لهيمنة الجوانب والأبعاد العاطفية والمتهورة عليها، لذلك عادة ما تقاس الثورات بنتائجها، وليس ببداياتها، ولا بتطوراتها، فالثورة فعل غير مرغوب فيه في ذاته، لأن له ضحايا وأثاراً جانبية كثيرة، ولكن نتائجه هي التي تحدد الموقف منه، وتحدد تقييمه في موازين الفعل الاجتماعي، والتطور السياسي، والآثار الاقتصادية. ويتم حساب النتائج بطريقتين: أولاهما: الآثار والأضرار التي أحدثتها الثورة في المجتمع، وثانيهما: طبيعة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي ينتج عن الثورة.
وإذا نظرنا إلى ما أطلق عليه البعض الثورات العربية، وأطلق عليها آخرون الانتفاضات العربية، أو الربيع العربي سنجد أن النتائج في كل الأحوال، وفي جميع النماذج بعيدة عن أي مؤشر أو معنى إيجابي، فقد نتج عن هذه الثورات انهيار ثلاث دول عربية هي سوريا واليمن وليبيا بصورة كاملة، وتدميرها تدميراً يعيدها قروناً إلى الوراء، وتحتاج إلى عقود من الزمان وتريليونات من الدولارات لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورات، وفي الدول التي نجت من الحروب الأهلية مثل تونس ومصر أحدثت الثورات تأثيرا اقتصاديا قاسيا عطل خطط التنمية، وأعاد الاقتصاد الوطني سنينَ إلى الوراء، وحقق درجات مؤلمة من الانهيارات الاجتماعية نظراً لهبوط طبقات اجتماعية عديدة درجات إلى الأدنى سواء إلى مستوى الفقر أو الفقر المدقع، أو العوز الاقتصادي بعد أن كانت ضمن الطبقات الوسطى أو الوسطى العليا.
وعلى المستوى السياسي لم تحقق أيٌ من هذه الثورات ما يعنيه مفهوم الثورة؛ بل جاءت الثورات بنظم أكثر تخلفا ورجعية واستبدادا، مع صعود التيارات الدينية في جميع الدول العربية التي شهدت هذه الثورات؛ مما دفع الشعوب إلى الثورة على الثوريين الرجعيين؛ الذين ظنوا أنهم يستطيعون توظيف الثورات لتمكين جماعات توظف الدين لأغراض سياسية، دون أن تستوعب قيم الدين، أو تفهم حقائق السياسة.
أما على المستوى الثقافي والإنساني والاجتماعي فقد أنتجت الثورات العربية في نهايتها نماذج لم تخطر على بال أي دارس للعلوم السياسية، أو تاريخ الثورات، فلم يتخيل أي مفكر من الذين نظروا وكتبوا عن الثورات أن ينتهي الثوار إلى مجموعة من الخونة الذين يبيعون أوطانهم لمن يشتري منهم الرطانة الثورية، ويوظفهم ضد دولهم، ويحولهم إلى معاول هدم لمجتمعاتهم، وتدمير لدولهم، انتهى الحال بالثوار العرب أن أصبحوا مماليك وصبيانا في دويلة قطر أو في تركيا. ولم يخطر على بال أكثر المتشائمين من الثورات أن يتحول ثوار سوريا إلى مرتزقة مأجورين يتم شحنهم عبر البحار للقتال مقابل المال.
هذه النهاية المأساوية للثورات العربية يتم تلخيصها في ليبيا وسوريا واليمن، تحول الثوار إلى عملاء لنظام ولاية الفقيه في اليمن، و إلى خونة في سوريا يبررون استيلاء أردوغان على شمال سوريا، والقيام بعملية تتريك للتعليم والخدمات وحتى النقود، وفي ليبيا تحول الثوار إلى مرتزقة سوريين، وخونة ليبيين يرحبون بالبوارج التركية التي جاءت لتحتل بلادهم.
نهاية مأساوية للثورات العربية تحتاج إلى أن يقوم علما الاجتماع والسياسة والأنثروبولوجي بتحليل عميق يشرح لماذا تفرد العرب بهذا النهاية الكارثية بعد عشر سنوات من تدفقهم في الشوارع رفضا للظلم والاستبداد والفقر والفساد.