لم يكن يعلم البحار السوري محمد عائشة (٣٣ عاماً) أن عقده الجديد على السفينة التجارية البحرينية (أمان) سيكون بمثابة حجز إجباري وضياع لأربع سنوات من حياته وسط البحر على متن السفينة وحيداً، رغم أن عقده كان فقط لمدة ٦ أشهر.
تتدهور صحته الجسدية والنفسية يوماً بعد يوم، ويخاطر بحياته مراراً عندما يسبح إلى الشاطئ قاطعاً نحو ٢٥٠ متراً ليأمن احتياجاته الأساسية من طعام وماء.
بدأ الشاب السوري محمد عائشة عمله الجديد على السفينة التجارية البحرينية (أمان) في الشهر الخامس من عام ٢٠١٧، برتبة ضابط ملاحة أول. خلال أول أسبوعين من عمل محمد على متنها، تنقلت السفينة بين عدة موانئ، ووصلت إلى ميناء “الأدبية” في مدينة السويس المصرية، ليتفاجأ طاقم العمل حينها بمحضر حجز على الباخرة بسبب مستحقات مالية على مالكها.
قبطان السفينة – مصري الجنسية- لم يكن متواجداً عندما وصل محضر الحجز، تسلمه محمد باعتباره الرتبة الثانية بعد القبطان. بعد ٤٨ ساعة من حجز السفينة، أفرج عنها وتابعت رحلاتها، لكنها عادت إلى نفس الميناء بعد أيام قليلة. تسلم الشاب السوري مرة أخرى محضر حجز على السفينة.
يقول البحار السوري لروزنة: “تسلمت المحضرين الأول والثاني وقمت بالإمضاء عليهما بصفتي الرتبة الثانية بعد القبطان الذي لم يكن متواجداً في المرتين، كونه مصري ويستطيع الدخول إلى الأراضي المصرية وزيارة عائلته. عندما استلمت المحضر سألتهم إذا كان هناك أي مسؤولية تقع على عاتقي، اجابوني بالنفي وقالوا إنه إجراء روتيني، لكنني وجدت نفسي وبسبب إمضائي على المحضر، أصبحت حارساً قضائياً على الباخرة وبعد عدة أيام أخذت سلطة الميناء جواز سفري”
عندما حُجز على السفينة في ميناء “الأدبية”، كان طاقمها كاملاً ومتواجداً بداخلها. حاولوا التواصل مع مالكها، لكنه وبحسب عائشة كان يعدهم بالحل وبإعطائهم مستحقاتهم. بقي الطاقم على متن الباخرة عدة أشهر ولكن معظمهم فقدوا الأمل بعد عدة وعود ومماطلات من مالك السفينة.
العاملون على متن السفينة كانوا سوريين ومصريين وهنود، غادروا الباخرة تباعاً خلال الفترة الممتدة من شهر ٧ – ٢٠١٧ وحتى شهر ٨ – ٢٠١٩. وبقي السوري محمد عائشة وحيداً على متنها باعتباره الحارس القضائي.
يقول: “نزلت للميناء وقلت لقسم الشرطة، كيف أنا بنترك لحالي هون، مين بدو يجبلي أساسيات الحياة من أكل وشرب، يومها صارت مشكلة كبيرة لأن أنا ممنوع انزل، لازم يكون معي تصريح لدخول الميناء”.
ألزمت سلطة الميناء التوكيل الملاحي المتعاقد مع السفينة، بتأمين شخص يجلس مع الشاب السوري ومدهم بجميع مستلزماتهم مع وعد على أن يتم تبديله بحارس قضائي آخر خلال شهر. مرت أيام قليلة وغادر الشخص المكلف بالجلوس مع محمد وتوقف التوكيل الملاحي عن تزويده بمستلزماته.تعرضت السفينة خلال وقوفها في عرض البحر قبالة ميناء “الأدبية” لمشكلتي تسريب مياه، الأولى كانت بداية عام ٢٠١٩. كان قسم من الطاقم متواجداً وتم سحب المياه عبر مضخات. المرة الثانية في شهر تشرين الأول ٢٠١٩ وكان وحيداً.
يروي محمد القصة: “كنت لوحدي، بلغت التوكيل وقلي رح يحكي مع مالك الباخرة، بوقتها كنا فاقدين الاتصال معه، وصارت تميل الباخرة. حكيت مع التوكيل وقلتلهم إذا زادت أكتر من هيك أنا بدي أخلي السفينة، وبتاريخ ١٧ – ١٠ – ٢٠١٩، عملت إخلاء وبقيت بالميناء ١٠ أيام، وبعد ضغط من سلطات الميناء رجعوني على الباخرة بعد حل المشكلة وقالولي رح نبعتلك ٣ أشخاص يقعدوا معك”.
عاد محمد إلى السفينة برفقة ٣ أشخاص. غادر الأول بعد شهر، والثاني مع بداية عام ٢٠٢٠، وبقي الثالث مع الشاب السوري.
تعرضت مصر في منتصف شهر آذار ٢٠٢٠ لعاصفة عرفت باسم “التنين”، أدت لتحريك الباخرة من قبالة ميناء “الأدبية” إلى منطقة تدعى “الكبانون” بجانب مدينة السويس، وبقيت هناك قرب الشاطئ حتى الآن.
من بداية العام ٢٠٢٠ وحتى شهر تشرين الأول من العام ذاته، ظل الشخص الثالث المكلف بالبقاء مع عائشة بالتردد إلى السفينة، ثم غادرها ولم يعد. ويجلس الشاب السوري وحيداً على متن السفينة منذ نحو ٧ أشهر.
تواصل محمد مع “اتحاد عمال النقل الدولي (ITF)” في شهر كانون الأول عام ٢٠٢٠ طالباً المساعدة. لبى الاتحاد طلب محمد وقدم له المساعدات المادية والطبية.
وبحسب البيان الذي نشره الاتحاد على موقعه، فقد وجد الطبيب الذي فحصه أنه يعاني من جميع الأعراض التي يعاني منها شخص مسجون في ظروف سيئة. يعاني من سوء التغذية وفقر الدم ويعاني من آلام في ساقيه. كما ظهرت عليه علامات الضرر النفسي.
يقول محمد لروزنة: “فقدت حوالي ١٥ كيلوغرام من وزني، أسناني جميعها بحاجة علاج، أعاني من فقر دم ومشاكل في الجهاز الهضمي، ومشاكل نفسية عديدة، أنا في زنزانة منفردة منذ أربع سنوات”
“تركوني روح على بيتي، مستحقاتي متنازل عنها، أنا غلطت لما مضيت على محضر الاستلام، بس مر سنة وسنتين وما عندكم استعداد تقدمولي شي”، يحمل محمد مسؤولية استمرار بقائه على الباخرة لسلطة ميناء “الأدبية”، ويطالبهم بتأمين بديل له.
حجز إجباري وحياة قاسية يعيشها البحار السوري محمد عائشة منذ نحو أربع سنوات. توفيت والدته خلالها دون أن يستطيع وداعها، وانتهت صلاحية جواز سفره قبل أيام أيضاً.