تشهد الساحة العربية اهتماما متزايدا بالترجمة، ترجمة الأعمال الأجنبية إلى العربية، حتى أن بعض الدور تكاد تتخصص في نشرها، والسبب إقبال القارئ العربي على الكتب الأجنبية، وخاصة الرواية. وهذا ليس بجديد، فبفضل المترجمين اكتشف العرب أعمال مشاهير الكتاب في الغرب، لاسيما أولئك الذين لا يتقنون لغة أجنبية، أو يتقنون منها واحدة، ويجهلون أخرى، كالإنجليزية في بلاد المغرب العربي، والفرنسية في بلاد المشرق، بصفة عامة، لأن الاستثناءات موجودة في الفضاءين.
لولا سامي الدروبي ما عرف العرب روائع الأدب الروسي، وخاصة روايات تولستوي ودستويفسكي؛ ولولا خالد الجبيلي ما عرفوا “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل، و“لوليتا” لفلاديمير نابوكوف، و“ألكسيس زوربا” لنيكوس كازانتزاكيس؛ ولولا صالح علماني ومحمد علي اليوسفي ما عرفوا بورخس وخوان رولفو وماركيز وميغيل أستورياس وأليخو كاربنتيي وسواهم من كبار كتاب أميركا اللاتينية.
عقدة الخواجة يعزى هذا الإقبال إلى أن الكتب المترجمة هي في الغالب زبدة ما أنتجه أدباء الغرب ومفكروه، ومن النادر أن يكون الأثر المترجم غير ذي قيمة، ولكن الخلل الذي يعتري تلك الأعمال مردّه إلى سوء الترجمة، أو عدم التزام صاحبها الأمانة في نقل نص من لغة إلى لغة. خاصة في هذه المرحلة التي تزايدت فيها الكتب المترجمة دون
أن تستوفي جميعها تلك الشروط.
فالملاحظ اليوم أن ما يترجم ليس كله جديرا بأن ينقل إلى لغة الضاد، وأن بعض المترجمين لا يتقنون إتقانا جيّدا اللغة المصدر أو اللغة الهدف، فإما أن يأتي النص المنقول في لغة سليمة، ولكنه يجانب المضمون، فيقفز المترجم على كلّ ما يستعصي عليه، أو أن إلمامه باللغة العربية وقواعدها وضوابطها ليس في مستوى إلمامه بلغة الآخر، فلا يفهم القارئ النصّ المعرّب إلا إذا عاد إلى الأصل.
ورغم ذلك، لا يزال الإقبال على أشدّه، حتى على الكتب التي أثبت أهل الاختصاص هلهلة صيغتها العربية، واحتواءها على أخطاء تخالف المعنى الذي قصده واضعوها.
تجاهل ترجمة الأدب العربي ليس مردّه إلى ضعف يشوب هذا الأدب، فالمسألة اختيار يخضع لشروط السوق أولا
وقد فسّر بعضهم ذلك بـ”عقدة الخواجة”، كما يقول إخوتنا في مصر، أي شعور العربي بأن ما يأتي من الغرب جيّد كلّه، بلا استثناء؛ بينما فسّره آخرون برغبة القارئ العربي في الاطّلاع على ما يجدّ في الساحة الغربية من جهة الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانية بعامة، واكتشاف أعمال سردية تشبع نهمه إلى التجارب المتميزة، وتعرّفه بواقع مجتمعات بعيدة عنه، غريبة في عاداتها وتقاليدها، أو تلبي حاجته إلى الارتحال، ولو عبر نصوص متخيلة، إلى عوالم أخرى، فليس أفضل من الرواية لولوج أعماق المجتمعات والإمساك بمعيشها اليومي المعقّد.
وقد تكون السوق، وقانون العرض والطلب، هي التي زادت في تضخيم هذا الظّاهرة وشجّعت الناشرين، أو بعضهم على الأقل، على طباعة الكتب المترجمة، أيّا ما يكن مستواها.
ولكن ثمّة من يذهب أبعد من ذلك، ويفسّر ميل شرائح واسعة من القراء العرب إلى الكتب الأجنبية بضعف ما ينتجه الشعراء والروائيون العرب عموما، دليله على ذلك عدم إقبال دور النشر الغربية على ترجمة آدابنا على الأقل (باعتبار أن فكرنا الحديث مستورد في معظمه)، وهذا الموقف ينمّ عن جهل تامّ بعملية ترجمة المؤلفات العربية إلى اللغات الأخرى.
فالغرب، كما يقول ريشار جاكموند أستاذ اللغة والآداب العربية في جامعة بروفانس، لا يزال يتعامل مع آداب الأمم الأخرى بمنطق العلاقة شمال –
جنوب، باستثناء الناطقين باللغتين الإسبانية والبرتغالية، أي وفرة في الصادرات من جهة، تقابلها ضآلة في الواردات من جهة أخرى. وفي فرنسا مثلا، لا يتعدى مجمل ما يترجم من الآداب الأجنبية 6 في المئة، يبلغ نصيب المؤلفات العربية منها 6.0 في المئة، تستوي في ذلك مع بقية اللغات التي توصف بـ”النادرة” شأن لغات الهند وباكستان.
تجاهل الأدب العربي
الملاحظ أن قلة قليلة من الناشرين الفرنسيين يهتمون بالأدب الناطق بالعربية، وباستثناء آكت سود التي تنشر بمعدل أربعة أو خمسة عناوين مترجمة من العربية ضمن سلسلة سندباد، لا توجد سوى دار سوي التي وضعت سلسلة هي أيضا بعنوان “إطار أخضر” تنشر بين الحين والحين روايتين أو ثلاثا، بينما لا تنشر غاليمار سوى كتاب واحد في السنة، وكذلك دار جان كلود لاتيس، رغم أنها نشرت ثلاثية محفوظ عقب فوزه بنوبل.
أي أن ما يترجم من الأدب العربي في فرنسا لا يتجاوز سنويا عشرة عناوين. ونادرا ما تقابل تلك العناوين المنشورة بقبول حسن، فالقراء الفرنسيون لا يتابعون مسيرة كاتب بقدر ما يهتمّون بما يخرج عن المألوف، حتى وإن كان صاحبه خارج الأسماء المعروفة في الوطن العربي، شأن علاء الدين الأسواني وخالد الخميسي اللذين تفوّقا من حيث عدد النسخ المبيعة على أسماء لامعة عندنا مثل صنع الله إبراهيم وإلياس خوري وجمال الغيطاني، ما يجعل ترجمة أعمال عربية إلى اللغة الفرنسية غير مربحة.
ثمّ إن أغلب الناشرين الفرنسيين لا يعرفون عن الأدب العربي سوى ما يكتب بالفرنسية، ولو سألت أي واحد من مديري النشر أو ما يطلق عليه “المحرر الأدبي” عن الكتّاب العرب لبادر بذكر الطاهر بن جلون وياسمينة خضراء وبوعلام صنصال وليلى سليماني، فضلا عن الراحلين أمثال محمد ديب ورشيد ميموني وإدريس الشرايبي وألبير ممي ومصطفى التليلي.
كذا محركات البحث، فما أن تكتب “كتّاب عرب” حتى تأتي هذه القائمة الفرنكوفونية. وهذا كله يعني أن تجاهل الأدب الناطق بلسان عربي ليس مردّه إلى ضعف يشوب هذا الأدب، فالمسألة اختيار يخضع لشروط السوق أولا، ولنسبة ما يمكن ترجمته ثانيا، ولذائقة القارئ الفرنسي ثالثا، فما يروقنا لا يعجبه بالضّرورة، حتى وإن كان العمل مكتملا فنّيّا، ثمّ إنّ من يروم الإحاطة بواقع مجتمعاتنا، يختار الطريق الأسهل، أي أن يقرأ للعرب في لغته هو.