محمد علي محسن
محمد علي محسن

فتاة الملوج .. 

غادرنا عدن إلى العاصمة صنعاء، كُنَّا شبه غرباء. الكل يدور في فلك رتيب وسؤوم، كأنَّنا أيتام فقدوا آباءهم ومأواهم، وصاروا في الشارع بلا زاد أو مُعِيل.

بقي حالنا هكذا لبضعة أعوام. ووسط هذه الصورة البائسة، عثرنا على شجرة في شارع خولان، نستظل بها ونحتمي من مطر السماء وجور الساسة. ويومًا بعد يوم كبرت وتضخمت هذه الشجرة، فصارت بيتًا ، ثم قصراً فسيحًا ، ثم قِبلة لكل ناشد حق  أو وظيفة.

كان الشيخ شائف محسن الدَّكام، عضو مجلس النواب - رحمه الله وأحسن مثواه - شجرة خضراء، ومأوى لنا جميعًا، كأناس تائهين أيتام فقدوا أباهم وأمهم في حرب صَمْواء، سحقت أرواحهم، وعبثت بمشاعرهم الجميلة. كُنَّا نلتقي ونَقِيلُ وننام في قلبه وبين جوانحه، فخفَّف عنَّا وطأة المأساة.

وفي إحدى المرات، صادف أن قِلتُ بجوار العاشق الولهان. كان طالبًا ذكيًا يدرس الصيدلة في جامعة صنعاء، ووجدته يسترسل في كتابة الشعر الغزلي بكلمات تليِّن الحجر.

اقتربت منه أكثر، والناس ميالون بطبيعتهم لمن يسمعهم ويتعاطف معهم . وبعد لحظات انفكَّت أساريره. كان عاشقًا صادقًا، مغرمًا بفتاة جميلة بائعة لخبز الملوج في أحد تقاطعات مدينة صنعاء. كان مُهْتَابًا من مُفَاتحة نُدمائه لاعتبارات طبقية غير مألوفة لنا، نحن المتشبعين بثقافة المواطنة المتساوية ومحاربة التمييز بين بني البشر.

أحبَّ الشاب الفتاة، وولعه هذا منحني شعورًا بالألفة والود لمدينة أزال، أحسست ولأول مرة أنني صنعاني الهوى ، وأننا صرنا عائلة واحدة رغم أنف السياسة والحرب وما تركته من نُدَبٍ في الجسد والروح.

في ظهيرة يوم صيفي مُمطِر، التقيت بـ"صادق" في سوق القات، حيث توجد حبيبته "نبيلة". وبينما كنَّا نسند ظهورنا إلى أحد الجدران، وفوق رؤوسنا بلكونة بارزة تُغطّي الرصيف، رأيته يطلق العنان لجوارحه.  أخذت عيناه وشفتاه ويداه تصول وتجول وتعانق وتلثم الفتاة الواقفة في الواجهة المقابلة. كانت تضع على رأسها دائرة من الخزف مغطاة بقماش رقيق ملون، يشبه غطاء النسوة الصنعانيات. قال لي: "هذه هي فتاة أحلامي. كل شيء فيها جميل وأنيق وفَتَّان. لقد وقعت في شراكها. أصدقك أنني لا أهْنَأُ بخبز إلا من صنع يديها". قلت له ناصحًا: "الحُب الذي يُشْتَرَى بفلوس سرعان ما يفسد. أخشى أن تكون الفتاة مغرمة بنقود جيبك أكثر من مشاعر فؤادك؟!". ابتسم بفتور، وزَمَّ شفتيه، وقبل أن نَدْخُلَ المخبز اشترينا من الفتاة ثلاثة أقراص ملوج. كانت الفرحة بادية على وجهي العاشقَيْنِ، وجدتها تحدثه بثقة وفرحة يصعب وصفهما بكلمات. لهجتها الصنعانية جذابة، وعيناها آسرتان.

عندما عدنا إلى ديوان حبيب الشعب، طلبت منه كتابة ما يختلج في وجدانه من مكنون، وعدته بكتابة قصته دون ذكر اسميهما. وهذا ما حدث. عندما نشرت قصته في صحيفة "النهار"، قام بقص الصفحة المكتوب فيها القصة مع رسم تعبيري لبائعة الملوح ، فقطع مساحة العمود كاملة ، طُبِعَ عليها قبلة باللون الأحمر، وعندما التقاها سلَّمها القصاصة، فَنَفَحَتْهُ ابتسامة لذيذة، وخبأت ورقة العاشق بين نهديها.

وذات مساء، جاءني بمجموعة من القصائد والرسائل تتوسطها صورة ملونة للفتاة. قال لي: "الصورة لم يَطَّلِع عليها حتى الشيطان". اعترف أنني ذُهلت من جمالها. وتساءلت في حيرة: كيف لهذا الجمال أن يرتدي الثوب الرث؟ وكيف لفتاة بهذه الفتنة أن تقف أمام السابلة دون أن يُكْتَشَف سرها؟ إنها لؤلؤة مُغَشَّاةٌ بصدفة، وصاحبي صياد ، عليم بما تكتنزه الصدفات والقوالب من جواهر ومعادن نفيسة.

كانت مشاعره دَفَّاقة، لذيذة مثل الغيث في الشتاء. أخذتني كلماته إلى عالم مثالي من النقاء والوفاء. وضحكات الفتاة أضاءت دربنا وقلوبنا جميعًا. كانت اللحظات الدافئة المسروقة من حياة أفسدها الساسة، إكسيرَ نجاة لصادق ولي ولرفاقنا.

رأيت في حب صادق ونبيلة وحدةً وطنية صادقة وبَارِقَةَ أمل في استعادة ما فقدناه من حب وود ومشاعر، وما أضعناه من وشائج وصلات إنسانية بسبب الحرب وما خلفته في نفوسنا وأذهاننا من بغض وتمزق وانكسار وخذلان. نعم، إنها ليست قصة حب عادية أو عابرة، وإنما هي وحدة اندماجية أجمل وأصدق من وحدة الساسة البارعين في الكذب والتضليل والقتل لأحلامنا. وأكثر من ذلك، رأيت أن قلبين عاشقين أفضل وأجدى لنا من خطابات وأفكار إصلاح مسار الوحدة أو الديمقراطية أو صندوق الانتخاب.

في صبيحة يوم أغرَّ، أكمل صادق دراسة الصيدلة في جامعة صنعاء. حضرت نبيلة على غير عادتها التي ألفناها، بأناقة وجاذبية. كانت ابتسامتها لذيذة سَلَبَت العقل. همست في أذن حبيبها كلمات جعلته يخرج عن طوره، غير آبه بآداب القاعة، فأخذها بين يديه وضمها حتى احمرَّ خدّاها خجلاً. علمنا من صادق أن كل الترتيبات تمضي بروية وسلام، وأننا سنذهب معه بعد الحفل مباشرة إلى الجامع، حيث القاضي محمد العمراني. كانت عائلة الفتاة قد وافقت في نهاية المطاف. وأمام إلحاح العاشقة نبيلة، رضخت والدتها. جاءت بـ "مُصْلِح" ، وهو عم الفتاة ، وهناك جرت مراسيم عقد القران. القاضي العمراني، بدماثة خلقه وخفّة دمه، قال مبتهجًا وهازئًا: "زواج مبارك، وإن شاء الله يكون فاتحة لإصلاح ما أفسده الخبير" - دون ذكر اسمه -.

بقيت أتواصل هاتفيًا مع صادق إلى أن انقطعت أخباره أثناء الحرب. ولمَّا أضحت الطريق سالكة إلى القرية التي يقطنها بِمَعِيَّة زوجته نبيلة وأبنائهما، ذهبت إلى المكان فوجدته أشبه بخَرابة. آلة القتال أحدثت أضرارًا جسيمة، فجدران وسقوف المساكن مدمرة، وجامع الصلاة لم يسلم من قذائف الهاون. أهل القرية إما نزحوا أو قُتلوا. عندما اقتربت من مسكن عائلة صادق، أحسست بخفقان قلبي يزداد ويتصاعد. خشيت، وترددت، وفكرت في العودة من حيث أتيت، لكنني تجاسرت ومضيت، وفي رأسي أكثر من فكرة سوداوية. في النهاية، رأيت منزل العاشقين واقفًا سليمًا بين أطلال الخراب. فتفقدته جدارًا جدارًا، ونافذة نافذة، فلم يُصِبْهُ أذى. كان الله راعيه، وكان الحب سَادِنَهُ، وكانت أفئدة أهله سر وجوده وبقائه. التقيت بأحد القرويين العائد لتوه لتفقد داره. سألته عن صادق وعائلته، فأجاب أنهم نزحوا، هذا كل ما أعلمني إياه. 

سررت للغاية أنهما أحياء يرزقان، فمثلهما ينبغي أن يعيش. ومضيت في دربي عائدًا والابتسامة تتربع ثغري. أسررتُ في نفسي: "الحمد لله أن العاشقين في أمان وسلام".

وذات مساء، وصلتني رسالة على "الواتساب" من رقم غريب. فتحتها؛ فلم تكن رسالة عادية كأي رسالة. كانت من العاشق الولهان، أعلمني فيها بمغادرته القرية واليمن عمومًا. بات يعمل في شركة أدوية مرموقة تجاريًا في دولة الكويت. كما أن زوجته وأبناءه الأربعة يعيشون معه منذ لحاقهم به قبل بضعة أعوام. ولما أكملت قراءة رسالته ورأيت صورة له ولعائلته في إحدى متنزهات المدينة، قفزت فرحًا. وصدعت بصوت جهير كالمجنون. ربما تأسيًا برفاقنا الكوبيين، كانوا يهتفون بحماسة عند ذكر زعيمهم الراحل فيدل كاسترو: "فيفا كوبا - تعيش كوبا -". وأنا صرخت لاهجًا: "عاش الحب .. عاش الجمال .. عاش صادق ونبيلة .. تبًّا للحرب .. سُحْقًا لنا جميعًا".

محمد علي محسن