لا يمكننا أن ننصف ثورة 26 سبتمبر 1962م مالم نجلي ثلاث قضايا رئيسية:
أولا: امتدادها التاريخي: ثورة سبتمبر ليست مجرد انقلاب عسكري منفصل عن نضالات من سبقها، وليست حركة ارتجالية نتجت عن لحظة وفاة الإمام أحمد، بل هي امتداد طبيعي للحركات الإصلاحية والتغييرية التي قادها خلال ربع قرن كوكبة من العلماء والقضاة وشيوخ القبائل والضباط وأحرار البيوت الهاشمية والتجار والمثقفين، منذ عشرينيات القرن الماضي. والملفت للباحث أن أغلب تلك الحركات الإصلاحية كانت ذات توجهات إسلامية ومنطلقات دينية. حيث لم تكن التيارات القومية واليسارية قد ظهرت بعد. ومن أبرز تلك الحركات والمبادرات النضالية: مبادرة الثعالبي، هيئة النضال، كتيبة الشباب اليمانية، جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جمعية الإصلاح، حزب الأحرار، الجمعية اليمانية الكبرى، جهود الفضيل الورتلاني، الحركة الدستورية (ثورة 1948م)، الاتحاد اليمني، انقلاب الثلايا (حركة 1955)، انتفاضة قبائل حاشد، بالإضافة إلى تنظيم الضباط.. وغيرها.
ثانيا: عمقها الاجتماعي: على الرغم من أن ضباط الجيش هم من باشروا الحركة عشية 26 سبتمبر، ورغم أن الدعم العسكري المصري وصل منذ اللحظات الأولى، إلا أن الأيام أثبتت أن الثورة كادت أن تفشل لو أنها اقتصرت على على هذين العنصرين فقط. فالمجتمع اليمني العميق له زعاماته التقليدية التي لا يمكن أن يحتشد إلا خلفها، مثل شيوخ القبائل، وعلماء الدين، والقضاة..، وبدون التحام تلك الفئات بالثورة فإن الثورة كانت ستصبح معزولة شعبيا، وتتحول إلى مجرد انقلاب فاشل. لقد مثل صمود القيادات التاريخية الدينية والقبلية، كالقاضي الزبيري والنعمان والإرياني وصبرة والشيخ الأحمر، عامل نصر كبير للثورة، في قدرتهم الفذة في حشد المجتمع. وهذا ما أدركته القيادات المصرية لاحقا ورأت أنها أخطأت في أول الأمر بدعم شخصيات طارئة على البيئة اليمنية كعبدالرحمن البيضاني.
ثالثا: نهجها التصحيحي: لم يكن مفاجئا أن يتشكل تيار تصحيحي لإنقاذ الثورة بقيادة تلك الزعامات. فمع اندلاع الثورة برزت مشكلتان رئيسيتان، كادتا تعصفان بها: الأولى: استلاب القرار الوطني، حيث أصبح التحكم في القرار السياسي بيد القيادة المصرية في صنعاء، مما جعل الثورة تدخل في مأزق صراع المحاور الإقليمية. والمشكلة الثانية: ظهور أصوات عنصرية متطرفة داخل الصف الجمهوري، أرادت حرف مسار الثورة وتحويلها من ثورة وطنية إلى حركة عنصرية طائفية، وبدأت تمارس إعدامات لقيادات وطنية بدعاوى عنصرية خارج سلطة القضاء. وقد اتضح لاحقا أن الدوائر الاستعمارية في عدن كانت تغذي هذا الاتجاه لتنفيذ مخططها القديم لتقسيم شمال اليمن إلى دولتين، مملكة زيدية في صنعاء وجمهورية شافعية في تعز. لمواجهة هذين التحديين، تشكل تيار التصحيح من القيادات التاريخية للثورة الآنف ذكرها، وبقاعدة شعبية عريضة، لم يستطع أحد تحاوزها، وتطور عبر محطات بارزة أهمها: مؤتمر عمران، مؤتمر خمر، حركة 5 نوفمبر، اتفاق المصالحة أبريل 1970م. واختصارا للمقال سأحيل القارئ إلى مذكرات صناع تلك الأحداث (مذكرات القاضي الإرياني، مذكرات الشيخ الأحمر، مذكرات النعمان، رياح التغيير للشامي، وكتب محسن العيني..) وغيرها كثير.