بعد أيام قليلة تحل الذكرى الثامنة والثلاثون لتأسيس المؤتمر الشعبي العام اليمني في ظل ظروف غاية الصعوبة، وبداية مرحلة تاريخية جديدة، يدخل فيها هذا الحزب مرحلته الرابعة إن صح التوصيف.
هذه الحلقة مخصصة لوصف المرحلة الأولى لهذا الحزب، وهي مرحلة التأسيس وما بعده التي تمتد من بداية الثمانينيات إلى قيام الوحدة اليمنية.
لا يمكننا فهم هذه المرحلة إلا إذا فهمنا الحرب الباردة، وفهم الصراع بين القطبين العالميين على جزيرة العرب، ولابد هنا من الإحالة إلى الحلقات التي كتبها صاحب هذا المقال حول حزب تجمع الإصلاح ففيها وصف مختصر لهذه المرحلة بحسب ما تيسر.
على ما يبدو من قراءة الواقع أن حزب المؤتمر وجد بتوافق أمريكي سعودي يمني، ليكون هذا الحزب هو المعادل للحزب الاشتراكي في جنوب الوطن الموالي للاتحاد السوفيتي، بل المملوك له.
فإذا كان الحزب الاشتراكي هو نواة ج ي د ش، الموالية للمعسكر الاشتراكي، فليكن المؤتمر هو نواة ج ع ي الموالية للمعسكر الرأسمالي.
كان المعسكر الرأسمالي في الحرب الباردة المسيطر على جمهورية الشمال يريد إظهارها متفوقة على جمهورية الجنوب الاشتراكية الفقيرة، وهو أمر لا شك يحظى بتأييد الشعب.
كانت فكرة المؤتمر أن يكون الوطن فوق الأيديولوجيا، وأن الأحزاب غير المعلنة، والتجمعات الاجتماعية يجب أن تتخلى عن تنظيماتها والإندماج معا في هذا الحزب للتقدم بعجلة التنمية، حتى يظهر فارق المعيشة بين الشمال والجنوب ظاهرا لكل أحد، وهو الأمر الذي يزعزع الاتحاد السوفيتي في الجنوب.
فإذا كان الحزب الاشتراكي في الجنوب شموليا إقصائيا يشرد كوادر الجنوب، فليكن هذا الحزب مرنا مؤلفا للقلوب، يجمع قوى الشمال، ويضم كوادر الجنوب المشردين من ديارهم.
وإذا كان الحزب الاشتراكي يقدم الأيديولوجيا على التنمية، فليكن هذا الحزب وطنيا، يقدم التنمية على الأيديولوجيا.
وإذا كان الحزب الاشتراكي يتبنى الأفكار الماركسية المحاربة للدين الغريبة عن المجتمع اليمني، فليكن هذا الحزب متوافقا مع الانتماء الإسلامي الأصيل في الشعب اليمني.
وإذا كان الحزب الاشتراكي أمميا يقاتل في نيكاراجوا وأنجولا، ويدعم الشيوعيين الأفغان، فليكن هذا الحزب قوميا يقاتل في العراق، وإسلاميا يقاتل في أفغانستان.
تأسس حزب المؤتمر من كل القوى الوطنية ما عدا الماركسيين والإماميين، وهاتان القوتان شكلتا المعارضة لدولة الجمهورية العربية اليمنية بتنسيق سوفيتي إيراني.
بالطبع أخذت كل فعالية حجمها في المؤتمر الشعبي بحسب قوتها في كيان الجمهورية العربية اليمنية، وقد كان نصيب الأسد فيما يبدو من قراءة المشهد العام لقبيلة حاشد وجماعة الإخوان المسلمين، ثم يأتي من بعدهم القوميون بجناحيهم الناصري والبعثي، وهي أحزاب انهكتها الخلافات الداخلية.
الناصريون كانوا الأشد تحطما بسبب آثار نكبة حزيران ووفاة عبدالناصر، واغتيال الحمدي، وفشل الانقلاب الناصري في اليمن، ولهذا كان المؤتمر الشعبي العام يمثل قارب نجاة لهم، وقد تحول غالبهم إلى براجماتيين مناسبين تماما لحزب المؤتمر الناشئ.
والبعثيون بدورهم أصابهم التشظي والكراهية بسبب العداء بين البعث العراقي والبعث السوري، ويبدو أن البعث جناح العراق كان هو الأكثر فعالية في المؤتمر الشعبي بسبب عدائه لإيران، ووقوف أصله في العراق رأس حربة العرب في حرب الخليج الأولى، بينما كان حزب البعث السوري يميل إلى إيران تبعا لميول الشيعي الإسماعيلي حافظ الأسد الذي عقد تحالفا استراتيجيا مع ولاية الفقيه.
الإخوان المسلمون لم يختلفوا عن القوميين في ناحية الخلاف الداخلي، وإن كان خلافا يسيرا لم يؤد إلى تشظي أو انقسام حاد، فإنه يقال إن الشيخ الزنداني الذي بدأ نفوده ينقص داخل جماعة الإخوان كان معارضا لدخول الجماعة في المؤتمر الشعبي، ولكنها معارضة خفيفة لم تخرج عن السياق العام، وأدت إلى رحيله عن اليمن إلى دول الخليج، وممارسته نشاطا دعويا متوافقا تماما مع التنسيق الأمريكي السعودي اليمني في الحرب الباردة، ولا سيما في أفغانستان.
الإماميون لم يضعوا بيضهم كله في سلة المعارضة، بل وضعوا أكثر بيضهم داخل المؤتمر، وهو بيض كان له أعمق الاثر في توجه حزب المؤتمر في مراحله اللاحقة.
المهم أن هذه المرحلة هي المرحلة الذهبية لحزب المؤتمر، ففيها قاد عملية تنمية لا ينكرها إلا جاحد، فقد قفزت الجمهورية العربية اليمنية قفزات هائلة وسريعة في كل جوانب الحياة: البنية التحتية، والتعليم، والصحة، والصناعة، والزراعة، وارتفاع مستوى الدخل...إلخ.
سر نجاحه هو التوافق الأمريكي السعودي اليمني، والتعايش السلمي الوطني الفريد إلى درجة أن نسي الناس المذهبين الزيدي والشافعي، وتجاهلوا الخلافات السياسية الأيديولوجية.
وسر آخر لا يقل أهمية عن أهمية القبول بالآخر، وهو أن الحزب في هذه المرحلة لم يكن حزبا فاسدا، فالفساد شأنه شأن الإقصاء ظهرا في هذا الحزب في المراحل اللاحقة، حينما انتهت الحرب الباردة، وقامت الوحدة اليمنية، ولم تعد أمريكا ولا السعودية تريدان استمرار الشفافية والقبول بالآخر...
تتبع الحلقة الثانية بمشيئة الله...