بقلم/محمد الصلاحي
لم تكن «الحوثية» يمنية الفكرة والتوجّه، ولم تكن وليدة الألفية الجديدة، كانت إيرانية الفكرة والنشأة والهدف ونتاج عمل طويل، أشرفت إيران على نشأتها وبدايتها وتحديد مساراتها وأهدافها، ابتداء بنشر أفكارها من خلال مراكز علمية خاصة، إلى حمل السلاح وتدشين مرحلة العنف في فرض الأفكار.
والحوثية هنا بوصفها الأشمل، وبأوجهها المتعددة كحركة فكرية تنشط في نشر أفكار طائفية ومذهبية (إثني عشرية)، ومشروع سياسي يخدم أجندة خارجية إيرانية، وميليشيات مسلحة تُمارس أفعالها خدمة لسياسة نشر الفكر الطائفي وفرض المشروع السياسي لها، وهذه استراتيجيتها في التوسع، يد تهدم العقول، وأخرى تهدم الحجر وتقتل البشر، ليتحقق من هذه الوسائل الغاية في سيادة هذا الفكر رغبة وكرها على كل الجغرافيا المقصود السيطرة عليها، والسكان المستهدفين.
في عام 1979 مع نجاح «الثورة الإيرانية» خرجت في صعدة مجاميع صغيرة احتفلت ابتهاجا بهذه المناسبة، هذه الفعالية لم تكن سوى بداية للمشهد الذي ظهر للعلن عسكريا بعد أكثر من 25 عاما من العمل السري، تحديدا في 2004، في أول مواجهة للميليشيات مع الدولة، وتلك المجاميع التي نظمت وحضرت الفعالية، هي من مثلت لاحقا مرجعيات دينية وقيادات عسكرية في الميليشيات الحوثية، على رأسها بدر الدين الحوثي والد زعماء الميليشيات، ونجله مؤسسها وأول زعمائها حسين بدر الدين.
وفي عام 1985، زار بدر الدين الحوثي يرافقه نجله حسين مدينة «قم» الإيرانية والتقيا بمرجعياتها، ومكثا فيها أعواما، وجعلا منها نقطة لاستقبال الشباب القادمين من صعدة وتدريبهم وتأهيلهم، ومن تلك اللحظة بدأت مخططات إيران تلقى طريقا فعليا في وصولها إلى اليمن، ثم تكررت الزيارة لاحقا في 1994 لذات الهدف.
مارست القيادات الحوثية نشر أفكارها من خلال إنشاء المعاهد والمراكز الصيفية المتبنية للفكر الطائفي الدخيل، وهي أشبه بالحوزات الدينية في إيران، بلغ عدد الملتحقين بها في منتصف التسعينات الآلاف، غالبيتهم من النشء والشباب.
وللتغطية على نشاطهم الفكري الطائفي في سنوات ما بعد 1994، أطلق عدد من قيادات الحوثية حزبين سياسيين (حزب الحق) و (حزب اتحاد القوى الشعبية) استُخدما كمظلة سياسية مارسوا تحتها نشاطهم الفكري الطائفي، وبدايات التأسيس للعمل العسكري، وعلى غير عادة العمل الحزبي المفتوح الذي لا يتقيد بقيود مذهبية أو جغرافية في إطار البلد الواحد، كان الانضمام لهذين الحزبين معقدا بشكل كبير، ومغلقا إلا على دائرة تثق بها القيادة، ومن المحيط الجغرافي المتبني لأفكارها الطائفية، واستمر زعماء الحوثية في بناء كيانهم الديني الطائفي، وتعزيز التواجد السياسي، وخلال سنوات هذا العمل، لم يغفلوا التجهيز العسكري السري، والإعداد المتواصل استعدادا لساعة الصفر.
كانت الحرب التي خاضتها مليشيات الحوثي ضد الدولة عام 2004 أولى بدايات تدشين العمل المسلح، بعد سنوات من العمل الفكري ونشر الطائفية المذهبية في مناطق وقرى صعدة النائية، وتجنيد المئات والآلاف من المغرر بهم في مراكزها الدينية الطائفية، وانتهت الحرب بمقتل مؤسسها وزعيمها حسين بدر الدين الحوثي، وتولى القيادة والده بدر الدين الحوثي، وخاضت الميليشيات بقيادته الحرب الثانية ضد الدولة في 2005، ثم آلت القيادة لاحقا لنجله وشقيق المؤسس عبدالملك بدر الدين، وتحت قيادته توالت حروب الميليشيات مع الدولة إلى أن وصلت للحرب السادسة في 2009.
بعد الحروب الستة، انكفأت الحوثية في تثبيت وجودها داخل المناطق التي سيطرت عليها شمالا، وتعزيز الانتماء الطائفي لها في أوساط الناس، استعدادا لمرحلة أخرى من التمدد والتوسع، فوجدت ضآلتها في ثورة الشباب ضد النظام السابق عام 2011، إذ كانت متنفسا نقلهم من جبال صعدة إلى شوارع صنعاء، من خلال انضمامهم إليها وتحالفهم المرحلي حينها مع القوى الثورية الشبابية والأحزاب السياسية المنخرطة فيها والتي تزعمت الخروج ضد النظام الحاكم آنذاك.
وبعد مخاضات سياسية وعسكرية واجتماعية عديدة، تهيأت فيها كل الظروف بفعل فاعل لصالح الميليشيات الحوثية، ساعدهم في هذا تحالفهم مع الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، فكانت النتيجة من هذه الظروف أن تمكنوا من الانقلاب على السلطة الشرعية في (21 سبتمبر- 2014)، والسيطرة على كل محافظات الشمال باستثناء بعض مديريات مأرب والجوف، ثم التمدد لاحقا باتجاه الجنوب في مارس 2015، والسيطرة على محافظات لحج وأبين والضالع وعدن وشبوة، وحينها انطلقت عاصفة الحزم الهادفة لاستعادة الشرعية، وتعاظم معها دور المقاومة على الأرض، فتغيرت موازين القوى العسكرية، وتبدلت خارطة السيطرة بتحرير المحافظات الجنوبية الخمس المحتلة في أول خمسة شهور من الحرب، وأجزاء من مأرب وحجة والجوف.
أوجدت الحوثية جرحا غائرا في الجسد اليمني، وكرّست الطائفية والمذهبية في تعاملها تجاه الشعب، ومارست صنوف الظلم تجاه المجتمع القبلي الرافض لها، وتسعى جاهدة لتغيير الهوية اليمنية في المناطق التي تسيطر عليها، مستندة على قوة قمعية لا تجد مانعا في فرض ما تريد، غير أن النهايات لهكذا ممارسات غالبا ما تكون واحدة، فتجارب الأجداد في نضالهم ضد الأئمة، ورثها الأحفاد في نضالهم ضد الحوثية، ولن تكون النهاية اليوم مختلفة عما كانت سابقا.