في الحرب لا تقاس المسافة بالمتر لخطورتها بل باليوم فما بين متر وآخر ثمة لغم مموه أو قناص مختبئ. على بعد ثلاثة أيام سفر من وسط مدينة الحديدة إلى أطرافها الجنوبية حيث مصنع اخوان ثابت في كيلو سبعة، يتأهب محمد عمر للسفر مرورا بمحافظة إب ولحج وعدن وصولا إلى المخا والخوخة ثم المصنع "جنوب المدينة" حيث يعمل حارس أمن هناك.
كان موعد سفره قد حان فهو يستعد للبقاء في المصنع لستة أشهر دون العودة إلى اطفاله خلالها، لكن كان له موعدا أخير مع الحمى والمرض ما احال دون سفره في الوقت المعين، تفقدت زوجته جيوب معطفه التي لم يكن فيها سوى بدلة السفر وهو مبلغ لا يكفي للذهاب إلى مستشفيات القطاع الخاص، فاتجهت به إلى مستشفى حكومي.
في المستشفى شُخصتْ حالة محمد على أنها ملاريا وبدأ في أخذ العلاج الذي لم يجدي نفعاً ولم تستطع جرعة الملاريا تخفيض الحرارة المرتفعة التي كانت تزيد يوماً بعد آخر مصاحبة معها غثيان وقيء وعدم الرغبة في الأكل.
مرت عشرة أيام ومحمد يتنقل من طبيب لآخر حتى طُلب منه عمل كشافة صدر التي ظهرت فيها الرئة مغطاة بالسوائل، التهاب ذات الرئة، وبالتالي عُملتْ له أشعة مقطعية التي أوحت إصابته بفايروس كورونا الذي كان في بداية ظهوره في المدينة. أصاب الهلع قلبيَّ محمد وزوجته وخصوصا أنهما في مدينة تفقد المعرفة التامة بهذا المرض المستجد. بقي في المستشفى لمدة عشرين يوماً يتنفس من أنبوبة اكسجين بطول جسده الهزيل تقريباً بعد الانخفاض الشديد في نسبة الأكسجين وعدم قدرته على النهوض من سريره بدونها، تحول الأمل في شفائه إلى أمنية ودعاء في قلب زوجته وأمه اللتان لازمتاه بالرعاية والاهتمام كل تلك الأيام.
كانت تكاليف المضادات الحيوية التي يأخذها محمد باهظة حيث أن المستشفى المعني بالرعاية لا يتكفل سوى بالسرير وبعض المغذيات والأدوية المقوية للجهاز المناعي التي توفرها احدى المنظمات داخل المستشفى. فاضت روح محمد إلى بارئها في سكينةٍ وهدوء تاركاً وراءهُ زوجة وثلاثة أبناء لا يعرفون من الحياة سوى معيلهم الذي مات قبل أن تشرق شمس العيد ولم يُتح لهم القدر فرصةً الفرح بقدومه إليهم.
تقولُ منيرة زوجة محمد وهي في منتصف العقد الثالث من العمر "وجدتُ نفسي وحيدة ومقيدة بديون لا حصر لها بعد وفاة زوجي". بعد موت محمد بأيام شعرتْ منيرة ببعض الأعراض كالحمى والصداع وضيق التنفس فذهبت للمستشفى التي أدخلتها مباشرة لمركز العزل قبل التأكد من اصابتها بفيروس كورونا لمجرد ملازمتها لزوجها المتوفي بكورونا أيام مرضه، في تلك الآونة لم تكن فحوصات الفايروس قد توفرت في المدينة حيث تؤخذ ثلاث عينات مشتبه بها من بين عشرة وترسل لصنعاء لعمل الفحص عليها نظراً لتكلفة الفحص المرتفعة.
منيرة وأبنائها بعد أزمتهم مع كورونا
أُدخلت منيرة إلى غرفة كبيرة تضمُّ عشرة أسرة لمرضى آخرين، ظلتْ حبيسة أربعة جدران داخل الحجر الصحي مع مرضى لا تدري هل تأكدت اصابتهم بالمرض أم مجرد اشتباه كما هو الحال معها! مما زاد من وطأة ما تقاسيه من ألم ابتعادها عن اطفالها وخوفها من العدوى بين عشرات المرضى هناك. منيرة بصوت يكاد تخنقهُ عبراتها التي لم تتوقف تقول: "أريد أن أكون مع أطفالي "كانت منيرة في عزلها الصحي تمرّْ بحالة نفسية عصيبة حيث يُخيل إليها شبح الموت المخيف ما جعلها فريسةً للاكتئاب والانطواء على افكار سلبية كادت أن تودي بحياتهاِ لولا تعلقها بأطفالها الصغار، وشعورها بالمسؤولية تجاههم وحاجتهم إليها بعد وفاة والدهم عوامل ساعدتها على الثبات في تلك الأيام الصعبة. يقول الدكتور زين العابدين أحد الأطباء المناوبين في الحجر الصحي: أن ٩٩٪ من مرضى كورونا يتعافون من خلال وضعهم النفسي الجيد حيثُ أن الخوف أحد أكبر العوامل التي تدمر الجهاز المناعي في جسم الإنسان، مضيفاً أن هناك حالات كثيرة فقدت حياتها لهذا السبب. في صباح اليوم الرابع عشر خرجت منيرة من الحجر الصحي هزيلة، كئيبة، وحيدة تتطلعُ بتحدٍ إلى من يمدِّ لها يدِّ العون لينتشلها مما هي فيه. لم يبقَ لها سوى اخوتها وزوجاتهم الذين استغلوا ابناءها في اعمال لا تنتهي خلال فترة تواجدها في العزل، بدأت حياة منيرة تنعقد كخيوط العنكبوت، تراكم إيجار البيت، دين البقال والصيدلية وديون من هنا وهناك حتى أنها عجزت عن استيعاب كل ما يحصل معها. " كنتُ أظن أن إخوتي سيساندونني في محنتي لكنهم زادوا من تلك المحنة فقد اشعروني وزوجاتهم أكثر من مرة بثقل وجودي واطفالي بينهم". تسرد منيرة قصتها بأسى وتضيف: "حدثتُ نفسي طويلا أن اترك اطفالي لجدتهم ولكنها امرأة كبيرة في السن تعيش على معاش زوجها المتقاعد قبل أن تنقطع المرتبات منذُ بداية الحرب". في الصباح كان للمرأة الصابرة موعداً مع الفرج فقد اتصلت بها احدى صديقاتها وطلبت منها صنع بعض الحلويات التي كانت تتفنن في صناعتها لحفلة عيد ميلاد ابنتها، وهكذا بدأت منيرة في عمل الحلويات للأصدقاء والمقربين مقابل أجر يدها فقط. عرضت عليها صديقتها بعض المال لتبدأ مشروع خاص بها لصنع الكيك والحلويات في البيت. واجهت منيرة صعوبات كثيرة في بادئ الأمر فهي غير معروفة لدى الناس مما جعلها تلجأ لصديقاتها اللائي قمن بدورهن في عمل دعاية لها على شبكات التواصل الاجتماعي ومجاميع الواتساب، حيثُ لاقت فرصة لتقديم ما تنتجهُ. عادت منيرة إلى بيتها مع اطفالها الثلاثة بعد دفع الإيجار المتأخر، واستطاعت أن تضم إليها أم زوجها المتوفي للعيش معهم. أقصى ما تحلم به منيرة الآن أن تتوسع في مشروعها بفتح محل خاص بها لكنها تجدّْ صعوبة في ذلك كونها لا تملك رأس المال الكافي لذلك، ناهيك عن المعاملات المعقدة في مدينتها لفتح هكذا مشاريع وخصوصا للمرأة. تحتاج منيرة إلى تعليم ابنائها وتربيتهم وهذا ما جعلها تخوض غمار العمل بمفردها لتكفل لها ولأولادها العيش بكرامة دون الحاجة إلى أن تعرضهم للتنمر من المجتمع المحيط الذي ينظر إلى ما حدث معهم مع كورونا على أنه وصمة عار أو لعنة شيطانية اصابتهم دون غيرهم. كان لوباء كورونا أثرهُ السيء في المجتمع اليمني ككل والتهامي بشكل خاص، حتى أنه أصبح هاجسا مزعجا وناقوسا خطرا يهددُ ملايين اليمنيين حيثُ أوضحت وزارة الصحة أن اليمن تفتقر إلى الوسائل الاحترازية وأدوات الوقاية من الفايروس في ظل الحرب مما زاد من معاناة المنظمات لإيصال خدماتها بشكل كبير إلى جميع مناطق اليمن. وقد حذرت الوزارة وشددت على المواطنين الامتناع أو حتى تخفيف الاختلاط المباشر مع بعضهم في ظل الجائحة، كما ساهم الإعلام المرئي والمسموع في دعم جهود الوزارة لتجنب الإصابة بالفايروس. ومع كل التحذيرات يبقى "لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا" هو رد العامة عند سماع اي تحذير. ورغم المحاولات الحثيثة للحصول على احصائيات رسمية للإصابات والوفيات في بلد يتجاذبهُ الموت من كل جانب ليس ابتداءً بالحرب ولا انتهاءً بكورونا إلا أن جميع جهودنا باءت بالفشل، لكن تبقى عادة تجاهل أرقام الأموات خط النجاة للإصابة بحزن مؤقت ثم... استئناف الحياة.
تم إنتاج هذه المادة كإحدى مخرجات برنامج " الكتابة الصحفية الجيدة لقضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي في ظل جائحة كوفيد19" الذي ينفذه مركز الدراسات والاعلام الاقتصادي بدعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان UNFPA