بعد الانسحاب الأميركي..

السيناريو السوري القاتم يلوح في أفق أفغانستان

تقارير وحوارات
قبل 3 سنوات I الأخبار I تقارير وحوارات

تلوح في الأفق سيناريوهات مظلمة بشأن مستقبل أفغانستان، من المرجح أن تنجم عن الانسحاب الأميركي المرتقب من هذا البلد، وأقسى هذه الاحتمالات هو اندلاع صراع مسلح واسع النطاق بين جماعات وحركات متناحرة.

ويُتوقع أن تكون محادثات السلام بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية بطيئة ومعقدة وقد تستغرق وقتا طويلا، في حال عدم التوصل إلى تسوية سياسية بين كابول وطالبان، فأفغانستان ما بعد الانسحاب الأميركي سوف تعاني تكريسا لأوضاع شبيهة بما حدث في سوريا عبر تقسيم النفوذ بين أطراف محلية مدعومة من قوى خارجية، ما يعني أن الصراع القتالي على الأرض سيستمر بين طالبان والحكومة المحلية وتنظيم داعش.

الجماعات الجهادية في حين يبدو الصراع الثلاثي بين هذه الأطراف الرئيسية على الأرض جزءا من المعضلة الأفغانية الآنية والمستقبلية، بالنظر إلى أن إحدى أولويات الولايات المتحدة تتمثل في منع ظهور قوة تنظيم داعش هناك، وهو ما يعتمد على مدى التماسك والتناغم بين قوات الأمن الأفغانية وحركة طالبان، فإن فرص نجاح المفاوضات بين الحكومة والحركة التي استؤنفت في السادس من يناير الماضي ما زالت غامضة، فضلا عن أن طالبان لا تُبدي نيّة حقيقية وصادقة على نبذ العنف.

غياب القوات الأميركية من شأنه بعث وتحرير الجماعات الجهادية، على الرغم من الضمانات التي قدمتها طالبان والمتعلقة بتعاونها في مجال مكافحة الإرهاب وتعهدها بالتفاوض على اتفاق دائم لوقف إطلاق النار وتقاسم السلطة مع كابول، وهي التعهدات التي تعكس استشعارها بأن الانسحاب الشامل بحلول مايو المقبل يصبّ في مصلحتها على حساب قوات الأمن الأفغانية ويمهد الطريق أمام هيمنتها أكثر من كونه تعهدا بغرض التعاون والتنسيق في إطار فرض الاستقرار.

تنظيم داعش يمثل تحديّا كبيرا بالنسبة إلى طالبان، فهو منافس أيديولوجي قادر استقطاب عناصر من قلب الحركة الأفغانية

ويعيد إصرار طالبان على تسلم السلطة في البلاد مجددا بعد ترك حكومة أفغانية هشة تحت رحمتها، الزمن إلى الوراء ويُقوض المشروع السياسي للنظام الحالي الذي سعى إلى وضع قواعد دستورية مدعومة من الدول الغربية بينما تُناهض الحركة، الديمقراطية بشكل عام، وتخطط لجعل أفغانستان إمارة إسلامية، فضلا عن أن الاتفاق المُبرم بينها وبين واشنطن لم يتطرق إلى إلزامها بالقواعد الديمقراطية وبالمسائل المتعلقة بهوية الدولة.

إذا كان الخلاف المحتدم بين طالبان وكابول يدور حول مرجعية الدولة وهويتها، حيث تصرّ الحركة على أن يكون الفقه السني الحنفي هو الحاكم وتؤكد الحكومة على ضرورة احترام التنوّع الديني في البلاد واحترام الحريات وحقوق المرأة، فهناك خلاف آخر بين طالبان وتنظيم داعش والذي يقوم على رفض مرجعية الحكومة والحركة معا، ويسعى إلى فرض الفقه السلفي الجهادي المبني على التصورات الوهابية المتشددة بقوة السلاح.

ويرجع السيناريو المحتمل لإمكانية تواصل الاحتكام للسلاح إلى العديد من الثغرات في بنود الاتفاقية الموقعة بين طالبان وواشنطن في فبراير 2020، ما جعل أجنحة متشددة داخل طالبان تستغلها معتبرة أن استمرار القتال تحت عنوان الجهاد ضد النظام الحالي حتى عودة الإمارة الإسلامية لا يُعدّ انتهاكا لاتفاق السلام.

وإذا حدث سحب كافة الجنود الأميركيين المتمركزين في أفغانستان والذين يناهز عددهم 12 ألف جندي، فالصراعات المسلحة الشاملة مرشحة للتجدد وسط خلافات ليست ثانوية ولا يمكن تسويتها بسهولة.

ويعزز هذا السيناريو حضور الطرف المتشدد الذي يزايد على بعض الأصوات المعتدلة، والإصرار على إحباط معنويات فئات أفغانية كانت تعلقت بحبل الإصلاحات المدنية والدستورية، لتحسين مستويات حياتها، بعد طي صفحة الحكم السلفي المتشدد، في مقابل حرص طالبان على إثبات أن انتصارها لا مفرّ منه، وحرص تنظيم داعش على خطف هذا الانتصار المفترض، وجني ثمار كل نشاطات الجهاديين على مدى عقدين لمصلحته.

نفوذ ضئيل

تسيطر الحكومة على نحو 30 في المائة فقط من مناطق أفغانستان، على الرغم من تفوقها العددي والتسليحي، وهذا عائد إلى معاناتها من تفشي الفساد وعدم وجود قيادة رمزية قوية ونافذة، بالمقارنة بطالبان التي أثبتت نجاعة استراتيجيتها وتفوقا في الهيمنة والنفوذ، مع تواضع قوتها وعدد عناصرها.

ويرجح أن تستمر طالبان في تحقيق المزيد من المكاسب، جراء التقويض المتزايد للحكومة التي تعاني من عجز في إدارة مواردها الهائلة مع سحب القوات الأميركية الباقية، وهو ما يصُب في صالح الحركة، لأنه سيحرم القوات الحكومية من الدعم والمشورة التي تحتاج إليها.

سيجد قادة طالبان أن انتصارات الحركة الكبرى ستتحقق مع انسحاب القوات الأميركية؛ وتستطيع بذلك مواجهة القدْر الكبير من التمويل الخارجي للحكومة وتسليح قواتها الأمنية الذي يتميز بمستوى عال من القدرات، سواء في الجيش البري أو القوات الجوية أو قوات العمليات الخاصة، وهو ما جرى مع وجود القوات الأميركية، فكيف سيصبح الوضع بعد انسحابها؟ مع فقدان القوات الأفغانية للمساعدة التي تشتدّ الحاجة إليها في الدعم الجوي والاستخبارات.

فشل الاستراتيجية العسكرية للقوات الأفغانية في الدفاع عن الدولة الأفغانية ضدّ حرب العصابات التي شنتها حركة طالبان جعل الحكومة وقواتها في موقف دفاعي منذ انتهاء مهمة الناتو القتالية في أفغانستان عام 2014، ولم يؤدّ إلى خسارة مساحات كبيرة من الأرض وفقدان قيمة اللوجستيات المعقدة وإغراق الروح المعنوية للجنود الأفغان إلى درجة هروب أعداد منهم من الخدمة فحسب، إنما أدى أيضا إلى تآكل تماسك القوام الرئيسي لمشروع مدني وليد كان يمكن أن يرى النور لو توفرت الحماية الميدانية والعسكرية المخلصة له.

عدم القدرة على توظيف إمكانيات القوات العددية والتمويل والتسليح المتقدم نتيجة انتشار الفساد وضعف القيادة والفشل في الإدارة الفعالة للأفراد من قبل الحكومة، منح حركة طالبان التي لا تحظى بالثقة الجماهيرية والانتشار الكبير على الأرض وتستمد نفوذها من المخابرات الأجنبية التي تدعمها، فرص تهديد حلم الدولة الوطنية المدنية لملايين الأفغان.

مع الأخذ في الاعتبار أن التمويل والدعم الدولي والأميركي لم يقتصر على الجانب العسكري، إنما شمل مجالات التعليم والإعلام والثقافة ونظم المعلومات، ما أسهم في ظهور مجتمع مدني عماده الشباب الأفغاني الذي اكتسب قطاعٌ كبيرٌ منه خبرات سياسية وثقافية ووعيا بالحقوق والواجبات عبر رعاية دساتير وانتخابات متتالية منذ العام 2004 إلى اليوم.

فإذا كان هناك مِن خارج أفغانستان وداخلها مَن يرعى عملية الانتقال السياسي من منطلق الظن بأن طالبان يمكن إصلاحها، وعازمة على التغيير وبدأت في إعادة اختراع نفسها عن طريق صياغة دعوة مقبولة للجماهير الأفغانية، فهناك من يعتبرها غير جديرة بالمكانة السياسية التي وصلت إليها، حيث لا تضمّ النخب الأفغانية ولا تعبّر إلا عن فئة متواضعة معرفيا وفكريا داخل المجتمع الأفغاني، وظهرت بالخطأ عقب الحرب الأهلية من خلال تنافس سلبي بين المجاهدين الأفغان.

ومع كل القدرات القتالية والتنظيمية والاحتراف الميداني لدى حركة طالبان، إلا أن مستقبل الحركة السياسي بعد الانسحاب الأميركي – إذا حدث في موعده – لن يكون بلا منغصات، حيث ينتشر سخط شعبي على الحركة المسلحة، التي قوضت حلم الجماهير في دولة تواكب العصر وتحترم الحريات العامة والفردية، ومن جانب آخر هناك داعش الذي يحاول إعاقة مسيرة الحركة الأفغانية إلى الاتجاه المعاكس، محاولا طرح الصيغة الأكثر تشددا عبر مخاطبة الفئات السلفية التي تعارض المرونة التي تبديها طالبان، ومتبنيا الحلول الدينية المغرقة في التطرف في مختلف القضايا العامة.

منافس شرس

تضاءلت قوة تنظيم القاعدة المركزي إلى حدّ بعيد في المشهدين السوري والأفغاني، نتيجة عوامل مختلفة تخص ظروف الساحتين؛ فهناك استهداف غربي وأميركي لقادته وتعاون في سوريا لبلورة حالة محلية منفصلة عن التنظيم الأم، بينما تُمارَس في أفغانستان الضغوط على حركة طالبان لكشف الغطاء السياسي والأمني عنه.

في الوقت نفسه لم تُترك الفرصة كاملة لتنظيم داعش كي يملأ فراغ القاعدة المركزي، حيث يتبنى منهجيته في الجهاد العالمي، وبعد أن كان واحدا من أقوى فروع داعش الخارجية بعد هزيمته في العراق وسوريا ويتمتع بهالة قدسية في نفوس المتشددين من السلفيين الأفغان مقارنة بطالبان والقاعدة وشبكة حقاني، فقد التنظيم قدرا من هذا النفوذ علاوة على خسارته لبعض الأراضي التي كان يسيطر عليها في شرق أفغانستان.

أضعفت العمليات التي نفذتها قوات التحالف والقوات الأفغانية المحلية ولاية خراسان، وهو فرع داعش في أفغانستان، وبقي له بعد فقدانه غالبية قادته المتمرسين، العديد من الخلايا العسكرية المحترفة التي تنفذ عمليات نوعية في قلب العاصمة كابول ومحيطها ومعاقل طالبان التقليدية في إقليم نانجارهار بشرق أفغانستان بين الحين والآخر.

ويمثل تنظيم داعش تحديّا كبيرا، فهو بالنسبة إلى طالبان منافس أيديولوجي قادر على التجنيد واستقطاب عناصر من قلب الحركة الأفغانية عبر التشكيك في نهجها العقائدي واتهامها بالتسيب في الدين وإهدار الشريعة، وقد تمكن من ضمّ عدد من عناصر طالبان المتشددين الرافضين للمباحثات والتسويات السياسية والراغبين في مواصلة القتال.

لا يزايد داعش فحسب، على المسائل العقائدية والمذهبية، بإظهار نفسه أكثر ثباتا في الدين ومُقدِما مصلحة الشريعة على السياسة، وكونه المعادي الأول لطائفة الشيعة، بل أيضا على المسائل والتفصيلات السياسية.

وفي حين ارتبط الخلاف الأهم خلال سير المفاوضات بين طالبان وكابول بكيفية التوصل إلى تأسيس حكومة موحدة من الموالاة والمعارضة، وافق قادة طالبان المشاركين في عملية التفاوض على تقاسم السلطة، ويغازل عناصر داعش قادة وأعضاء طالبان المتمركزين في شرق أفغانستان المطالبين بإسقاط الحكومة والرافضين للشراكة معها في السلطة من حيث المبدأ من أجل ضمّهم واستقطابهم.

تنُمّ مقدرة داعش على التجدد والتعويض المستمر وعلى تحمل الخسائر البشرية على مستوى القيادات والمقاتلين، عن إصرار على منافسة الطرفين الرئيسيين في الساحة الأفغانية على كعكة النفوذ بعد انسحاب القوات الأميركية وهما طالبان والحكومة المحلية.

السيناريو المحتمل لإمكانية تواصل الاحتكام إلى السلاح راجع إلى الثغرات العديدة في بنود الاتفاقية الموقعة بين طالبان وواشنطن في فبراير 2020

ولم تتمكن الجهود المتضافرة بين قوات التحالف الغربي وطالبان والقوات الأفغانية، من القضاء على شبكات تنظيم داعش – ولاية خراسان، حيث أوجد التنظيم لنفسه ملاذا في شرق أفغانستان المتاخمة لباكستان وساعده رسوخ جذوره الطائفية والعقائدية في الديناميات المحلية والدور الذي يلعبه المقاتلون الأجانب وكبار قادة طالبان المنشقين والمنضمين إلى جانبه من باكستان.

لن يقتصر الصراع في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي المرتقب على جبهتي طالبان والحكومة الأفغانية، فهناك تنظيم داعش الذي رغم نكساته العسكرية وخسائره في صفوف القيادات فقد عزز حضوره مخترقا الحالة السياسية والدينية الأفغانية، وهو نفوذ مرشح للتنامي بعد الانسحاب الأميركي الذي سيتيح لداعش فرصا أكبر للاستقطاب والتجنيد، من منطلق الحرص على الظهور بمظهر التنظيم الجهادي الحقيقي الذي لا يحيد عن ثوابت الشريعة والصامد في مواجهة المحتل الأجنبي.

على غرار المشهد في سوريا من المرجح أن يتشكل المشهد الأفغاني عقب الانسحاب المفترض للقوات الأميركية، حيث من المستبعد أن تفضي التسويات إلى تناغم سياسي وشراكة في الحكم بين الحكومة والمتمردين، وإنما إلى مراكز نفوذ منفصلة محمية بقوة السلاح.

من المفترض أن تستفيد طالبان أكثر من غيرها من انسحاب القوات الأميركية، لكن لن تكون الاستفادة أكثر من تقليل الضغط على التنظيم وفتح المجال للترويج بداخل الحركة لرواية النصر المؤزر على الأميركان، والتي من شأنها الإسهام في كبح حركة الانشقاقات وتخفيف حدة الخلافات الداخلية.

لن يحظى الشعب الأفغاني بأكثر مما حظي به السوريون بعد عقد كامل من الحرب الأهلية والصراع المسلح بين وكلاء في الداخل موالين لقوى إقليمية ودولية؛ حيث تكريس توزيع النفوذ ومراكز الهيمنة بين فاعلين محليين وكيانات مؤدلجة محلية ومعولمة، وجميعها مدعومة من الخارج.

ستبرز في الحالة الأفغانية قوى إقليمية ودولية داعمة للأطراف المتصارعة بالداخل مثل الصين وروسيا وباكستان وإيران والهند، وجميعها تمتلك مصالح سياسية واقتصادية واستراتيجية وأمنية تلتقي أحيانا وتتعارض وتتضارب أحايين أخرى في أفغانستان، كما أن لكل منها آليات ووسائل للتأثير على سير الأوضاع في هذا البلد.